صفحة جزء
المسألة الثالثة : قال أصحابنا : هذه الآية تدل على أنه سبحانه يجوز أن يرى ، وتقريره من أربعة أوجه :

الأول : أن الآية دالة على أن موسى عليه السلام سأل الرؤية ، ولا شك أن موسى عليه السلام يكون عارفا بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى ، فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها ، وحيث سألها [ ص: 187 ] علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى . قال القاضي : الذي قاله المحصلون من العلماء في ذلك أقوال أربعة :

أحدها : ما قاله الحسن وغيره : أن موسى عليه السلام ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى ، قال : ومع الجهل بهذا المعنى قد يكون المرء عارفا بربه وبعدله وتوحيده ، فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفا على السمع .

وثانيها : أن موسى عليه السلام سأل الرؤية على لسان قومه ، فقد كانوا جاهلين بذلك يكررون المسألة عليه يقولون : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) [ البقرة : 55 ] فسأل موسى الرؤية لا لنفسه ، فلما ورد المنع ظهر أن ذلك لا سبيل إليه ، وهذه طريقة أبي علي وأبي هاشم .

وثالثها : أن موسى عليه السلام سأل ربه من عنده معرفة باهرة باضطرار ، وأهل هذا التأويل مختلفون ، فمنهم من يقول : سأل ربه المعرفة الضرورية ، ومنهم من يقول : بل سأله إظهار الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته ، وإن كانت من فعله ، كما نقوله في معرفة أهل الآخرة ، وهو الذي اختاره أبو القاسم الكعبي .

ورابعها : المقصود من هذا السؤال أن يذكر تعالى من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع رؤيته حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي . وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء ، وهو الذي ذكره أبو بكر الأصم . فهذا مجموع أقوال المعتزلة في تأويل هذه الآية . قال أصحابنا : أما الوجه الأول فضعيف ، ويدل عليه وجوه :

الأول : إجماع العقلاء على أن موسى عليه السلام ما كان في العلم بالله أقل منزلة ومرتبة من أراذل المعتزلة ، فلما كان كلهم عالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى ، وفرضنا أن موسى عليه السلام لم يعرف ذلك ، كانت معرفته بالله أقل درجة من معرفة كل واحد من أراذل المعتزلة ، وذلك باطل بإجماع المسلمين .

الثاني : أن المعتزلة يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل . فإما أن يقال : إن موسى عليه السلام حصل له هذا العلم أو لم يحصل له هذا العلم ، فإن كان الأول كان تجويزه لكونه تعالى مرئيا يوجب تجويز كونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة ، وتجويز هذا المعنى على الله تعالى يوجب الكفر عند المعتزلة ، فيلزمهم كون موسى عليه السلام كافرا ، وذلك لا يقوله عاقل .

وإن كان الثاني فنقول : لما كان العلم بأن كل مرئي يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل علما بديهيا ضروريا ، ثم فرضنا أن هذا العلم ما كان حاصلا لموسى عليه السلام ، لزم أن يقال : إن موسى عليه السلام لم يحصل فيه جميع العلوم الضرورية ، ومن كان كذلك فهو مجنون ، فيلزمهم الحكم بأنه عليه السلام ما كان كامل العقل ، بل كان مجنونا ، وذلك كفر بإجماع الأمة ، فثبت أن القول بأن موسى عليه السلام ، ما كان عالما بامتناع الرؤية مع فرض أنه تعالى ممتنع الرؤية يوجب أحد هذين القسمين الباطلين ، فكان القول به باطلا ، والله أعلم .

وأما التأويل الثاني : وهو أنه عليه السلام إنما سأل الرؤية لقومه لا لنفسه ، فهو أيضا فاسد ويدل عليه وجوه :

الأول : أنه لو كان الأمر كذلك لقال موسى : أرهم ينظروا إليك ، ولقال الله تعالى : لن يروني ، فلما لم يكن كذلك ، بطل هذا التأويل .

والثاني : أنه لو كان هذا السؤال طلبا للمحال لمنعهم عنه ، كما أنهم لما قالوا : ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) منعهم عنه بقوله : ( إنكم قوم تجهلون ) .

والثالث : أنه كان يجب على موسى إقامة الدلائل القاطعة على أنه تعالى لا تجوز رؤيته ، وأن يمنع قومه بتلك الدلائل عن هذا السؤال ، فأما أن لا يذكر شيئا من تلك الدلائل البتة ، مع أن ذكرها كان فرضا مضيقا ، كان هذا نسبة لترك الواجب إلى موسى عليه السلام ، وأنه لا يجوز .

والرابع : أن أولئك الأقوام الذين طلبوا الرؤية ، إما أن يكونوا قد آمنوا [ ص: 188 ] بنبوة موسى عليه السلام ، أو ما آمنوا بها ، فإن كان الأول ، كفاهم في الامتناع عن ذلك السؤال الباطل مجرد قول موسى عليه السلام ، فلا حاجة إلى هذا السؤال الذي ذكره موسى عليه السلام ، وإن كان الثاني لم ينتفعوا بهذا الجواب ؛ لأنهم يقولون له : لا نسلم أن الله منع من الرؤية ، بل هذا قول افتريته على الله تعالى . فثبت أن على كلا التقديرين لا فائدة للقوم في قول موسى عليه السلام ( أرني أنظر إليك ) .

وأما التأويل الثالث : فبعيد أيضا ، ويدل عليه وجوه :

الأول : أن على هذا التقدير يكون معنى الآية : أرني أمرا أنظر إلى أمرك ، ثم حذف المفعول والمضاف ، إلا أن سياق الآية يدل على بطلان هذا ، وهو قوله : ( أنظر إليك قال لن تراني ) فسوف تراني ( فلما تجلى ربه للجبل ) ولا يجوز أن يحمل جميع هذا على حذف المضاف .

الثاني : أنه تعالى أراه من الآية ما لا غاية بعدها ، كالعصا ، واليد البيضاء ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وإظلال الجبل ، فكيف يمكن بعد هذه الأحوال طلب آية ظاهرة قاهرة .

والثالث : أنه عليه السلام كان يتكلم مع الله بلا واسطة . ففي هذه الحالة كيف يليق به أن يقول : أظهر لي آية قاهرة ظاهرة تدل على أنك موجود ؟ ومعلوم أن هذا الكلام في غاية الفساد .

الرابع : أنه لو كان المطلوب آية تدل على وجوده لأعطاه تلك الآية كما أعطاه سائر الآيات ، ولكان لا معنى لمنعه عن ذلك ، فثبت أن هذا القول فاسد .

وأما التأويل الرابع وهو أن يقال : المقصود منه إظهار آية سمعية تقوي ما دل العقل عليه ، فهو أيضا بعيد ؛ لأنه لو كان المراد ذلك لكان الواجب أن يقول : أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في العقل ، وحيث لم يقل ذلك بل طلب الرؤية ، علمنا أن هذه التأويلات بأسرها فاسدة .

الحجة الثانية من الوجوه المستنبطة من هذه الآية الدالة على أنه تعالى جائز الرؤية : وذلك لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال : لا أرى . ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر ، فقال له إنسان : ناولني هذا لآكله ، فإنه يقول له : هذا لا يؤكل ، ولا يقول له : لا تأكل . ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة ، لقال له : لا تأكلها ، أي هذا مما يؤكل ، ولكنك لا تأكله . فلما قال تعالى : ( لن تراني ) ولم يقل : لا أرى ، علمنا أن هذا يدل على أنه تعالى في ذاته جائز الرؤية .

الحجة الثالثة من الوجوه المستنبطة من هذه الآية : أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز ، والمعلق على الجائز جائز ، فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة . إنما قلنا : إنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز ؛ لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل ، بدليل قوله تعالى : ( فإن استقر مكانه فسوف تراني ) واستقرار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه . فثبت أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز الوجود في نفسه .

إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها ؛ لأنه لما كان ذلك الشرط أمرا جائز الوجود ، لم يلزم من فرض وقوعه محال ، فبتقدير حصول ذلك الشرط ، إما أن يترتب عليه الجزاء الذي هو حصول الرؤية أو لا يترتب ، فإن ترتب عليه حصول الرؤية لزم القطع بكون الرؤية جائزة الحصول ، وإن لم يترتب عليه حصول الرؤية قدح هذا في صحة قوله ، إنه متى حصل ذلك الشرط حصلت الرؤية ، وذلك باطل .

فإن قيل : إنه تعالى علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته ، واستقرار الجبل حال حركته محال ، فثبت أن حصول الرؤية معلق على شرط ممتنع الحصول ، لا على شرط جائز الحصول ، فلم يلزم [ ص: 189 ] صحة ما قلتموه ؟ والدليل على أن الشرط هو استقرار الجبل حال حركته أن الجبل إما أن يقال : إنه حال ما جعل استقراره شرطا لحصول الرؤية كان ساكنا أو متحركا ، فإن كان الأول ، لزم حصول الرؤية بمقتضى الاشتراط ، وحيث لم تحصل علمنا أن الجبل في ذلك الوقت ما كان مستقرا ، ولما لم يكن مستقرا كان متحركا . فثبت أن الجبل حال ما جعل استقراره شرطا لحصول الرؤية ، كان متحركا لا ساكنا . فثبت أن الشرط هو كون الجبل مستقرا حال كونه ساكنا ، فثبت أن الشرط الذي علق الله تعالى على حصوله حصول الرؤية هو كون الجبل مستقرا حال كونه متحركا ، وأنه شرط محال .

والجواب : هو أن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث إنه متحرك أو ساكن ، وكونه ممتنع الخلو عن الحركة والسكون لا يمنع اعتبار حاله من حيث إنه متحرك أو ساكن ؛ ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجودا كان واجب الوجود ، ولو أخذته بشرط كونه معدوما كان واجب العدم ، فلو أخذته من حيث هو هو مع قطع النظر عن كونه موجودا أو كونه معدوما كان ممكن الوجود ، فكذا ههنا الذي جعل شرطا في اللفظ هو استقرار الجبل ، وهذا القدر ممكن الوجود ، فثبت أن القدر الذي جعل شرطا أمر ممكن الوجود جائز الحصول ، وهذا القدر يكفي لبناء المطلوب عليه . والله أعلم .

الحجة الرابعة : من الوجوه المستنبطة من هذه الآية في إثبات جواز الرؤية : قوله تعالى : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) وهذا التجلي هو الرؤية ، ويدل عليه وجهان :

الأول : أن العلم بالشيء يجلي لذلك الشيء ، وإبصار الشيء أيضا يجلي لذلك الشيء . إلا أن الإبصار في كونه مجليا أكمل من العلم به ، وحمل اللفظ على المفهوم الأكمل أولى .

الثاني : أن المقصود من ذكر هذه الآية تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى ، بدليل أن الجبل مع عظمته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه ، ولولا أن المراد من التجلي ما ذكرناه وإلا لم يحصل هذا المقصود ، فثبت أن قوله تعالى : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) هو أن الجبل لما رأى الله تعالى اندكت أجزاؤه ، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية ، أقصى ما في الباب أن يقال : الجبل جماد ، والجماد يمتنع أن يرى شيئا ، إلا أنا نقول : لا يمتنع أن يقال : إنه تعالى خلق في ذات الجبل الحياة والعقل والفهم ، ثم خلق فيه رؤية متعلقة بذات الله تعالى ، والدليل عليه أنه تعالى قال : ( ياجبال أوبي معه والطير ) [ سبأ : 10 ] وكونه مخاطبا بهذا الخطاب مشروط بحصول الحياة والعقل فيه فكذا ههنا ، فثبت بهذه الوجوه الأربعة دلالة هذه الآية على أنه تعالى جائز الرؤية .

أما المعتزلة فقالوا : إنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية أنه تعالى تمتنع رؤيته ، فوجب صرف هذه الظواهر إلى التأويلات .

أما دلائلهم العقلية فقد بينا في الكتب العقلية ضعفها وسقوطها ، فلا حاجة هنا إلى ذكرها .

وأما دلائلهم السمعية فأقوى ما لهم في هذا الباب التمسك بقوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار ) [ الأنعام : 103 ] وقد سبق في سورة الأنعام ما في هذه الآية من المباحث الدقيقة واللطائف العميقة .

واعلم أن القوم تمسكوا بهذه الآية على عدم الرؤية من وجوه :

الأول : التمسك بقوله تعالى : ( لن تراني ) وتقرير الاستدلال أن يقال : إن هذه الآية تدل على أن موسى عليه السلام لا يرى الله البتة ، لا في الدنيا ولا في القيامة ، ومتى ثبت هذا ثبت أن أحدا لا يراه البتة ، ومتى ثبت هذا ثبت أنه تعالى يمتنع أن يرى ، فهذه مقدمات ثلاثة .

أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوه :

الأول : ما نقل عن أهل اللغة أن كلمة " لن " للتأبيد . قال [ ص: 190 ] الواحدي رحمه الله : هذه دعوى باطلة على أهل اللغة ، وليس يشهد بصحته كتاب معتبر ولا نقل صحيح . وقال أصحابنا : الدليل على فساده قوله تعالى في صفة اليهود : ( ولن يتمنوه أبدا ) [ البقرة : 95 ] مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة .

والثاني : أن قوله : ( لن تراني ) يتناول الأوقات كلها بدليل صحة استثناء أي وقت أريد من هذه الكلمة ، ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ ، وهذا أيضا ضعيف ؛ لأن تأثير الاستثناء في صرف الصحة لا في صرف الوجوب على ما هو مقرر في أصول الفقه .

الثالث : أن قوله : لن أفعل كذا ، يفيد تأكيد النفي ، ومعناه أن فعله ينافي حالته ، كقوله تعالى : ( لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ) [ الحج : 73 ] وهذا يدل على أن الرؤية منافية للإلهية ، والجواب : أن " لن " لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه ، والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال ، فكان قوله : ( لن تراني ) نفيا لذلك المطلوب ، فأما أن يفيد النفي الدائم فلا . فهذه جملة الكلام في تقرير هذه المسألة .

أما المقدمة الثانية : فقالوا : القائل اثنان : قائل يقول : إن المؤمنين يرون الله وموسى أيضا يراه ، وقائل ينفي الرؤية عن الكل ، أما القول بإثباته لغير موسى ونفيه عن موسى فهو قول خارق للإجماع ، وهو باطل .

وأما المقدمة الثالثة : فهي أن كل من نفى الوقوع نفى الصحة ، فالقول بثبوت الصحة مع نفي الوقوع قول على خلاف الإجماع ، وهو باطل .

واعلم أن بناء هذه الدلالة على صحة المقدمة الأولى ، فلما ثبت ضعفها سقط هذا الاستدلال بالكلية .

الحجة الثانية للقوم : أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه خر صعقا ، ولو كانت الرؤية جائزة فلم خر عند سؤالها صعقا ؟

والحجة الثالثة : أنه عليه السلام لما أفاق قال : سبحانك ، وهذه الكلمة للتنزيه ، فوجب أن يكون المراد منه تنزيه الله تعالى عما تقدم ذكره ، والذي تقدم ذكره هو رؤية الله تعالى ، فكان قوله : ( سبحانك ) تنزيها له عن الرؤية . فثبت بهذا أن نفي الرؤية تنزيه الله تعالى ، وتنزيه الله إنما يكون عن النقائص والآفات ، فوجب كون الرؤية من النقائص والآفات ، وذلك على الله محال . فثبت أن الرؤية على الله ممتنعة .

والحجة الرابعة : قوله تعالى حكاية عن موسى لما أفاق أنه قال : ( تبت إليك ) ولولا أن طلب الرؤية ذنب لما تاب منه ، ولولا أنه ذنب ينافي صحة الإسلام لما قال : ( وأنا أول المؤمنين ) .

واعلم أن أصحابنا قالوا : الرؤية كانت جائزة ، إلا أنه عليه السلام سألها بغير الإذن ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فكانت التوبة توبة عن هذا المعنى لا عما ذكروه ، فهذا جملة الكلام في هذه الآية ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية