صفحة جزء
المسألة الرابعة في البحث عن هذه الآية : نقل عن ابن عباس أنه قال : جاء موسى عليه السلام ومعه السبعون ، وصعد موسى الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل ، وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتابا وقربه نجيا ، فلما سمع موسى صرير القلم عظم شوقه ، فقال : ( رب أرني أنظر إليك ) قال صاحب " الكشاف " : ثاني مفعولي " أرني " محذوف ، أي " أرني " نفسك ( أنظر إليك ) وفي لفظ الآية سؤالات :

السؤال الأول : النظر : إما أن يكون عبارة عن الرؤية أو عن مقدمتها وهي تقليب الحدقة السليمة إلى [ ص: 191 ] جانب المرئي التماسا لرؤيته .

وعلى التقدير الأول يكون المعنى : أرني حتى أراك ، وهذا فاسد .

وعلى التقدير الثاني يكون المعنى : أرني حتى أقلب الحدقة إلى جانبك ، وهذا فاسد لوجهين :

أحدهما : أنه يقتضي إثبات الجهة لله تعالى .

والثاني : أن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية ، فجعله كالنتيجة عن الرؤية وذلك فاسد .

والجواب : أن قوله : ( أرني ) معناه اجعلني متمكنا من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك .

السؤال الثاني : كيف قال : ( لن تراني ) ولم يقل لن تنظر إلي ، حتى يكون مطابقا لقوله : ( أنظر إليك ) .

والجواب : أن النظر لما كان مقدمة للرؤية كان المقصود هو الرؤية لا النظر الذي لا رؤية معه .

والسؤال الثالث : كيف اتصل الاستدراك في قوله : ( ولكن انظر إلى الجبل ) بما قبله ؟

والجواب : المقصود منه تعظيم أمر الرؤية ، وأن أحدا لا يقوى على رؤية الله تعالى إلا إذا قواه الله تعالى بمعونته وتأييده ، ألا ترى أنه لما ظهر أثر التجلي والرؤية للجبل اندك وتفرق ، فهذا من هذا الوجه يدل على تعظيم أمر الرؤية .

أما قوله : ( فلما تجلى ربه للجبل ) فقال الزجاج : " تجلى " أي ظهر وبان ، ومنه يقال : جلوت العروس إذا أبرزتها ، وجلوت المرآة والسيف إذا أزلت ما عليهما من الصدأ . وقوله : ( جعله دكا ) قال الزجاج : يجوز " دكا " بالتنوين و " دكاء " بغير تنوين ، أي جعله مدقوقا مع الأرض يقال : دككت الشيء إذا دققته أدكه دكا ، والدكاء والدكاوات : الروابي التي تكون مع الأرض ناشزة . فعلى هذا ، الدك مصدر ، والدكاء اسم . ثم روى الواحدي بإسناده عن الأخفش في قوله : ( جعله دكا ) أنه قال : دكه دكا مصدر مؤكد ، ويجوز جعله ذا دك . قال : ومن قرأ " دكاء " ممدودا أراد جعله دكاء أي أرضا مرتفعة ، وهو موافق لما روي عن ابن عباس أنه قال : جعله ترابا . وقوله : ( وخر موسى صعقا ) قال الليث : الصعق مثل الغشي يأخذ الإنسان ، والصعقة الغشية . يقال : صعق الرجل وصعق ، فمن قال : صعق فهو صعق . ومن قال : صعق فهو مصعوق . ويقال أيضا : صعق إذا مات ، ومنه قوله تعالى : ( فصعق من في السماوات ومن في الأرض ) [ الزمر : 68 ] فسروه بالموت . ومنه قوله : ( يومهم الذي فيه يصعقون ) [ الطور : 45 ] أي يموتون . قال صاحب " الكشاف " : صعق أصله من الصاعقة ، ويقال لها : الصاقعة من صعقه إذا ضربه على رأسه .

إذا عرفت هذا فنقول : فسر ابن عباس قوله تعالى : ( وخر موسى صعقا ) بالغشي ، وفسره قتادة بالموت ، والأول أقوى ؛ لقوله تعالى : ( فلما أفاق ) قال الزجاج : ولا يكاد يقال للميت : قد أفاق من موته ، ولكن يقال للذي يغشى عليه : إنه أفاق من غشيه ؛ لأن الله تعالى قال في الذين ماتوا : ( ثم بعثناكم من بعد موتكم ) [ البقرة : 56 ] .

أما قوله : ( قال سبحانك ) أي تنزيها لك عن أن يسألك غيرك شيئا بغير إذنك ، ( تبت إليك ) وفيه وجهان :

الأول : " تبت إليك " من سؤال الرؤية في الدنيا .

الثاني : " تبت إليك " من سؤال الرؤية بغير إذنك ( وأنا أول المؤمنين ) بأنك لا ترى في الدنيا ، أو يقال : ( وأنا أول المؤمنين ) بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك .

التالي السابق


الخدمات العلمية