صفحة جزء
( المسألة الثالثة ) : روى الأنباري أن الكندي المتفلسف ركب إلى المبرد ، وقال : إني أجد في كلام العرب حشوا ، أجد العرب تقول : عبد الله قائم ، ثم تقول : إن عبد الله قائم ، ثم تقول : إن عبد الله لقائم ، فقال المبرد : بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ ، فقولهم : عبد الله قائم إخبار عن قيامه ، وقولهم : إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : إن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر لقيامه ، واحتج عبد القاهر على صحة قوله بأنها إنما تذكر جوابا لسؤال السائل بأن قال : إنا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كان جوابا للقسم نحو : والله إن زيدا منطلق ، ويدل عليه من التنزيل قوله : ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض ) [الكهف : 83] وقوله في أول السورة : ( نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم ) [الكهف : 13] وقوله : ( فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ) [الشعراء : 216] وقوله : ( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ) [الأنعام : 56] وقوله : ( وقل إني أنا النذير المبين ) [الحج : 89] [ ص: 35 ] وأشباه ذلك مما يعلم أنه يدل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا ونظروا فيه ، وعليه قوله : ( فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ) [الشعراء : 16] وقوله : ( وقال موسى يافرعون إني رسول من رب العالمين ) [الأعراف : 104] وفي قصة السحرة ( إنا إلى ربنا منقلبون ) [الأعراف : 125] إذ من الظاهر أنه جواب فرعون عن قوله : ( قال آمنتم له قبل أن آذن ) [طه : 71] وقال عبد القاهر : والتحقيق أنها للتأكيد ، وإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظن في خلافه لم يحتج هناك إلى " إن " ، وإنما يحتاج إليها إذا كان السامع ظن الخلاف ، ولذلك تراها تزداد حسنا إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله ، كقول أبي نواس :


فعليك باليأس من الناس إن غنى نفسك في الياس



وإنما حسن موقعها ؛ لأن الغالب أن الناس لا يحملون أنفسهم على اليأس . وأما جعلها مع اللام جوابا للمنكر في قولك : " إن زيدا لقائم " فجيد ؛ لأنه إذا كان الكلام مع المنكر كانت الحاجة إلى التأكيد أشد ، وكما يحتمل أن يكون الإنكار من السامع احتمل أيضا أن يكون من الحاضرين . واعلم أنها قد تجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لا يوجد مثل قولك : إنه كان مني إليه إحسان فعاملني بالسوء ، فكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت ، وتبين الخطأ في الذي توهمت ، وعليه قوله تعالى حكاية عن أم مريم : ( قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت ) [آل عمران : 36] وكذلك قول نوح عليه السلام : ( قال رب إن قومي كذبون ) [الشعراء : 117] .

التالي السابق


الخدمات العلمية