صفحة جزء
أما قوله تعالى :( الذي له ملك السماوات والأرض ) فاعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بأن يقول للناس كلهم : إني رسول الله إليكم ، أردفه بذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى .

واعلم أن هذه الدعوى لا تتم ولا تظهر فائدتها إلا بتقرير أصول أربعة .

الأصل الأول : إثبات أن للعالم إلها حيا عالما قادرا . والذي يدل عليه ما ذكره في قوله تعالى :( الذي له ملك السماوات والأرض ) وذلك لأن أجسام السماوات والأرض ، تدل على افتقارها إلى الصانع الحي العالم القادر من جهات كثيرة مذكورة في القرآن العظيم ، وشرحها وتقريرها مذكور في هذا التفسير ، وإنما افتقرنا في حسن التكليف وبعثة الرسل إلى إثبات هذا الأصل ؛ لأن بتقدير أن لا يحصل للعالم مؤثر يؤثر في وجوده ، أو إن حصل له مؤثر ، لكن كان ذلك المؤثر موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار ، لم يكن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام ممكنا .

والأصل الثاني : إثبات أن إله العالم واحد منزه عن الشريك والضد والند ، وإليه الإشارة بقوله :( لا إله إلا هو ) وإنما افتقرنا في حسن التكليف وجواز بعثة الرسل إلى تقرير هذا الأصل ؛ لأن بتقدير أن يكون للعالم إلهان ، وأرسل أحد الإلهين نبيا إلى الخلق فلعل هذا الإنسان الذي يدعوه الرسول إلى عبادة هذا الإله ما كان مخلوقا له ، بل كان مخلوقا للإله الثاني ، وعلى هذا التقدير فإنه يجب على هذا الإنسان عبادة هذا الإله وطاعته ، فكانت بعثة الرسول إليه ، وإيجاب الطاعة عليه ظلما وباطلا . أما إذا ثبت أن الإله واحد ، فحينئذ يكون جميع الخلق عبيدا له ، ويكون تكليفه في الكل نافذا ، وانقياد الكل لأوامره ونواهيه لازما ، فثبت أن ما لم [ ص: 25 ] يثبت كون الإله تعالى واحدا لم يكن إرسال الرسل وإنزال الكتب المشتملة على التكاليف جائزا .

والأصل الثالث : إثبات أنه تعالى قادر على الحشر والنشر ، والبعث والقيامة ؛ لأن بتقدير أن لا يثبت ذلك ، كان الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية عبثا ولغوا ، وإلى تقدير هذا الأصل الإشارة بقوله :( يحيي ويميت ) لأنه لما أحيا أولا ، ثبت كونه قادرا على الإحياء ثانيا ، فيكون قادرا على الإعادة والحشر والنشر ، وعلى هذا التقدير يكون الإحياء الأول إنعاما عظيما ، فلا يبعد منه تعالى أن يطالبه بالعبودية ؛ ليكون قيامه بتلك الطاعة قائما مقام الشكر عن الإحياء الأول ، وأيضا لما دل الإحياء الأول على قدرته على الإحياء الثاني ، فحينئذ يكون قادرا على إيصال الجزاء إليه .

واعلم أنه لما ثبت القول بصحة هذه الأصول الثلاثة . ثبت أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ، ومطالبة الخلق بالتكاليف ؛ لأن على هذا التقدير الخلق كلهم عبيده ولا مولى لهم سواه ، وأيضا إنه منعم على الكل بأعظم النعم ، وأيضا إنه قادر على إيصال الجزاء إليهم بعد موتهم ، وكل واحد من هذه الأسباب الثلاثة سبب تام في أنه يحسن منه تكليف الخلق ، أما بحسب السبب الأول ، فإنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته ، وأما بحسب السبب الثاني فلأنه يحسن من المنعم مطالبة المنعم عليه بالشكر والطاعة ، وأما بحسب السبب الثالث فلأنه يحسن من القادر على إيصال الجزاء التام إلى المكلف أن يكلفه بنوع من أنواع الطاعة ، فظهر أنه لما ثبتت الأصول الثلاثة بالدلائل التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية ، فإنه يلزم الجزم بأنه يحسن من الله إرسال الرسل ، ويجوز منه تعالى أن يخصهم بأنواع التكاليف ، فثبت أن الآيات المذكورة دالة على أن للعالم إلها حيا عالما قادرا ، وعلى أن هذا الإله واحد ، وعلى أنه يحسن منه إرسال الرسل وإنزال الكتب .

التالي السابق


الخدمات العلمية