صفحة جزء
واعلم أنه تعالى لما أثبت هذه الأصول المذكورة بهذه الدلائل المذكورة في هذه الآية ذكر بعده قوله :( فآمنوا بالله ورسوله ) وهذا الترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأنه لما بين أولا أن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام أمر جائز ممكن ، أردفه بذكر أن محمدا رسول حق من عند الله ؛ لأن من حاول إثبات مطلوب وجب عليه أن يبين جوازه أولا ، ثم حصوله ثانيا ، ثم إنه بدأ بقوله :( فآمنوا بالله ) لأنا بينا أن الإيمان بالله أصل ، والإيمان بالنبوة والرسالة فرع عليه ، والأصل يجب تقديمه . فلهذا السبب بدأ بقوله :( فآمنوا بالله ) ثم أتبعه بقوله :( ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ) .

واعلم أن هذا إشارة إلى ذكر المعجزات الدالة على كونه نبيا حقا ، وتقريره : أن معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت على نوعين :

النوع الأول : المعجزات التي ظهرت في ذاته المباركة ، وأجلها وأشرفها أنه كان رجلا أميا لم يتعلم من أستاذ ، ولم يطالع كتابا ، ولم يتفق له مجالسة أحد من العلماء ، لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء ، وما غاب رسول الله عن مكة غيبة طويلة يمكن أن يقال : إن في مدة تلك الغيبة تعلم العلوم الكثيرة ، ثم إنه مع ذلك فتح الله عليه باب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن المشتمل على علوم الأولين والآخرين ، فكان ظهور هذه العلوم العظيمة عليه مع أنه كان رجلا أميا لم يلق أستاذا ولم يطالع كتابا ، من أعظم المعجزات ، وإليه الإشارة بقوله :( النبي الأمي ) .

[ ص: 26 ] والنوع الثاني من معجزاته : الأمور التي ظهرت من مخارج ذاته مثل انشقاق القمر ، ونبوع الماء من بين أصابعه . وهي تسمى بكلمات الله تعالى ، ألا ترى أن عيسى - عليه السلام - لما كان حدوثه أمرا غريبا مخالفا للمعتاد ، لا جرم سماه الله تعالى كلمة . فكذلك المعجزات لما كانت أمورا غريبة خارقة للعادة لم يبعد تسميتها بكلمات الله تعالى ، وهذا النوع هو المراد بقوله :( يؤمن بالله وكلماته ) أي يؤمن بالله وبجميع المعجزات التي أظهرها الله عليه ، فبهذا الطريق أقام الدليل على كونه نبيا صادقا من عند الله .

واعلم أنه لما ثبت بالدلائل القاهرة التي قررناها بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وجب أن يذكر عقيبه الطريق الذي به يمكن معرفة شرعه على التفصيل ، وما ذاك إلا بالرجوع إلى أقواله وأفعاله وإليه الإشارة بقوله تعالى :( واتبعوه ) .

واعلم أن المتابعة تتناول المتابعة في القول وفي الفعل . أما المتابعة في القول فهو أن يمتثل المكلف كل ما يقوله في طرفي الأمر والنهي والترغيب والترهيب . وأما المتابعة في الفعل فهي عبارة عن الإتيان بمثل ما أتى المتبوع به سواء كان في طرف الفعل أو في طرف الترك ، فثبت أن لفظ( واتبعوه ) يتناول القسمين . وثبت أن ظاهر الأمر للوجوب فكان قوله تعالى :( واتبعوه ) دليلا على أنه يجب الانقياد له في كل أمر ونهي ، ويجب الاقتداء به في كل ما فعله إلا ما خصه الدليل ، وهو الأشياء التي ثبت بالدليل المنفصل أنها من خواص الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

فإن قيل : الشيء الذي أتى به الرسول يحتمل أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان واجبا عليه ، ويحتمل أيضا أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوبا ، فبتقدير أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوبا ، فلو أتينا به على سبيل أنه واجب علينا ، كان ذلك تركا ، ونقضا لمبايعته . والآية تدل على وجوب متابعته ، فثبت أن إقدام الرسول على ذلك الفعل لا يدل على وجوبه علينا .

قلنا : المتابعة في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع ، بدليل أن من أتى بفعل ثم إن غيره وافقه في ذلك الفعل ، قيل : إنه تابعه عليه . ولو لم يأت به . قيل : إنه خالفه فيه . فلما كان الإتيان بمثل فعل المتبوع متابعة ، ودلت الآية على وجوب المتابعة ، لزم أن يجب على الأمة مثل فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

بقي ههنا أنا لا نعرف أنه - عليه السلام - أتى بذلك على قصد الوجوب أو على قصد الندب . فنقول : حال الدواعي والعزائم غير معلوم ، وحال الإتيان بالفعل الظاهر والعمل المحسوس معلوم ، فوجب أن لا يلتفت إلى البحث عن حال العزائم والدواعي ، لكونها أمورا مخفية عنا ، وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظاهر . لكونها من الأمور التي يمكن رعايتها ، فزالت هذه الشبهة ، وتقريره : أن هذه الآية دالة على أن الأصل في كل فعل فعله الرسول أن يجب علينا الإتيان بمثله إلا إذا خصه الدليل .

إذا عرفت هذا فنقول : إنا إذا أردنا أن نحكم بوجوب عمل من الأعمال .

قلنا : إن هذا العمل فعله أفضل من تركه ، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ نعلم أن الرسول قد أتى به في الجملة ، لأن العلم الضروري حاصل بأن الرسول لا يجوز أن يواظب طول عمره على ترك الأفضل ، فعلمنا أنه - عليه السلام - قد أتى بهذا الطريق الأفضل . وأما أنه هل أتى بالطرف الأحسن فهو مشكوك ، والمشكوك لا يعارض المعلوم ، فثبت أنه [ ص: 27 ] - عليه السلام - أتى بالجانب الأفضل . ومتى ثبت ذلك وجب أن يجب علينا ذلك ؛ لقوله تعالى في هذه الآية :( واتبعوه ) فهذا أصل شريف ، وقانون كلي في معرفة الأحكام ، دال على النصوص لقوله تعالى :( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) [ النجم : 3 - 4 ] فوجب علينا مثله لقوله تعالى :( واتبعوه ) .

وأما قوله :( لعلكم تهتدون ) ففيه بحثان :

أحدهما : أن كلمة " لعل " للترجي ، وذلك لا يليق بالله ، فلا بد من تأويله .

والثاني : أن ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من كل المكلفين الهداية والإيمان على قول المعتزلة ، والكلام في تقرير هذين المقامين قد سبق في هذا الكتاب مرارا كثيرة ، فلا فائدة في الإعادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية