صفحة جزء
[ ص: 63 ] ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون )

فقال :( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ) واعلم أن دلائل ملكوت السماوات والأرض على وجود الصانع الحكيم القديم كثيرة ، وقد فصلناها في هذا الكتاب مرارا وأطوارا فلا فائدة في الإعادة .

ثم قال :( وما خلق الله من شيء ) والمقصود التنبيه على أن الدلائل على التوحيد غير مقصورة على السماوات والأرض . بل كل ذرة من ذرات عالم الأجسام والأرواح فهي برهان باهر ، ودليل قاهر على التوحيد ، ولنقرر هذا المعنى بمثال . فنقول : إن الضوء إذا وقع على كوة البيت ظهر الذرات والهباءات ، فلنفرض الكلام في ذرة واحدة من تلك الذرات فنقول : إنها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية ، وذلك لأنها مختصة بحيز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له ، وكل حيز من تلك الأحياز الغير المتناهية فرضنا وقوع تلك الذرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيز المعين من الممكنات والجائزات ، والممكن لا بد له من مخصص ومرجح وذلك المخصص إن كان جسما عاد السؤال فيه ، وإن لم يكن جسما فهو الله سبحانه ، وأيضا فتلك الذرة لا تخلو عن الحركة والسكون ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، وكل محدث فإن حدوثه لا بد وأن يكون مختصا بوقت معين مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده ، فاختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه ، لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص قديم ، فإن كان ذلك المخصص جسما عاد السؤال فيه ، وإن لم يكن جسما فهو الله سبحانه وتعالى ، وأيضا إن تلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجمية . ومخالفة لها في اللون والشكل والطبع والطعم وسائر الصفات . واختصاصها بكل تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام ، لا بد وأن يكون من الجائزات ، والجائز لا بد له من مرجح ، وذلك المرجح إن كان جسما عاد البحث الأول فيه ، وإن لم يكن جسما فهو الله سبحانه ، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصانع من جهات غير متناهية ، واعتبارات غير متناهية ، وكذا القول في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني ، مفرداته ومركباته وسفلياته وعلوياته وعند هذا يظهر لك صدق ما قال الشاعر :


وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد



وإذا عرفت هذا فحينئذ ظهرت الفائدة لك من قوله تعالى :( وما خلق الله من شيء ) ولما نبه الله تعالى على هذه الأسرار العجيبة والدقائق اللطيفة ، أردفه بما يوجب الترغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكر فقال :( وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ) ولفظة " أن " في قوله :( وأن عسى ) هي المخففة من الثقيلة تقديره : أنه عسى ، والضمير ضمير الشأن ، والمعنى : لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار ، وإذا كان هذا الاحتمال قائما وجب على العاقل المسارعة إلى هذه الفكرة ، والمبادرة إلى هذه الرؤية ، سعيا في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم ، ولما ذكر تعالى هذه البيانات الجلية والدلائل العقلية قال :( فبأي حديث بعده يؤمنون ) وذلك لأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ما فيه من هذه [ ص: 64 ] التنبيهات الظاهرة والبينات الباهرة ، فكيف يرضى منهم الإيمان بغيره . واعلم أن هذه الآية دالة على مطالب كثيرة .

المطلب الأول : أن التقليد غير جائز ولا بد من النظر والاستدلال ، والدليل على أن الأمر كذلك قوله :( أولم يتفكروا ) .

والمطلب الثاني : أن أمر النبوة متفرع على التوحيد ، والدليل عليه أنه لما قال :( إن هو إلا نذير مبين ) أتبعه بذكر ما يدل على التوحيد ، ولولا أن الأمر كذلك ، لما كان إلى هذا الكلام حاجة .

والمطلب الثالث : تمسك الجبائي والقاضي بقوله تعالى :( فبأي حديث بعده يؤمنون ) على أن القرآن ليس قديما قالوا : لأن الحديث ضد القديم ، وأيضا فلفظ الحديث يفيد من جهة العادة حدوثه عن قرب ، ولذلك يقال : إن هذا الشيء حديث ، وليس بعتيق ، فيجعلون الحديث ضد العتيق الذي طال زمان وجوده ، ويقال في الكلام : إنه حديث ، لأنه يحدث حالا بعد حال على الأسماع .

وجوابنا عنه : أنه محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حدوثها .

المطلب الرابع : أن النظر في ملكوت السماوات والأرض لا يكون إلا بعد معرفة أقسامها .

وتفصيل الكلام في شرح أقسامها ، أن يقال : كل ما سوى الله تعالى ، فهو إما أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز أو لا متحيزا ، ولا حالا في المتحيز ، أما المتحيز فإما أن يكون بسيطا ، وإما أن يكون مركبا ، أما البسائط فهي إما علوية وإما سفلية ، أما العلوية فهي الأفلاك والكواكب ، ويندرج فيما ذكرناه العرش والكرسي ، ويدخل فيه أيضا الجنة والنار ، والبيت المعمور ، والسقف المرفوع ؛ واستقص في تفصيل هذه الأقسام ، وأما السفلية فهي : طبقات العناصر الأربعة ، ويدخل فيها البحار والجبال والمفاوز ، وأما المركبات فهي أربعة ؛ الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان ، واستقص في تفصيل أنواع هذه الأجناس الأربعة ، وأما الحال في المتحيز وهي الأعراض ، فيقرب أجناسها من أربعين جنسا ، ويدخل تحت كل جنس أنواع كثيرة ، ثم إذا تأمل العاقل في عجائب أحكامها ولوازمها وآثارها ومؤثراتها فكأنه خاض في بحر لا ساحل له .

وأما القسم الثالث : وهو أن الموجود لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز ، فهو قسمان ، لأنه إما أن يكون متعلقا بأجسام بالتدبير والتحريك ، وهو المسمى بالأرواح ، وإما أن لا يكون كذلك ، وهي الجواهر القدسية المبرأة عن علائق الأجسام .

أما القسم الأول فأعلاها وأشرفها الأرواح الثمانية المقدسة الحاملة للعرش ، كما قال تعالى :( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) [ الحاقة : 17 ] ويتلوها الأرواح المقدسة المشارة إليها بقوله سبحانه :( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ) [الزمر : 75] ويتلوها سكان الكرسي ، وإليهم الإشارة بقوله :( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ) [ البقرة : 255 ] ويتلوها الأرواح المقدسة في طبقات السماوات السبع . وإليهم الإشارة بقوله :( والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا ) [ الصافات : 1 - 3 ] ومن صفاتهم ، أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويسبحون الليل والنهار لا يفترون ، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .

واعلم أن هذا الذي ذكرناه وفصلناه من ملك الله وملكوته كالقطرة في البحر ، فلعل الله سبحانه له ألف [ ص: 65 ] ألف عالم وراء هذا العالم ، وله في كل واحد منها عرش أعظم من هذا العرش ، وكرسي أعلى من هذا الكرسي ، وسماوات أوسع من هذه السماوات ، وكيف يمكن إحاطة عقل البشر بكمال ملك الله وملكوته ، بعد أن سمع قوله :( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) [المدثر : 31] فإذا استحضر الإنسان هذه الأقسام في عقله وأراد الخوض في معرفة أسرار حكمته وإلهيته فهم قولهم :( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ) [البقرة : 32] ونعم ما قال أبو العلاء المعري :


يا أيها الناس كم لله من فلك     تجري النجوم به والشمس والقمر
هنا على الله ماضينا وغابرنا     فما لنا في نواحي غيره خطر



التالي السابق


الخدمات العلمية