صفحة جزء
( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين )

قوله تعالى :( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ) في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال :( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) اعلم أن قارئا يقرأ القرآن بصوت عال حتى يمكنهم استماع القرآن ، ومعلوم أن ذلك القارئ ليس إلا الرسول عليه السلام ، فكانت هذه الآية جارية مجرى أمر الله محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ القرآن على القوم بصوت عال رفيع ، وإنما أمره بذلك ليحصل المقصود من تبليغ الوحي والرسالة .

ثم إنه تعالى أردف ذلك الأمر ، بأن أمره في هذه الآية بأن يذكر ربه في نفسه ، والفائدة فيه : أن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع الذكر بهذه الصفة ، لأنه بهذا الشرط أقرب إلى الإخلاص والتضرع .

المسألة الثانية : أنه تعالى أمر رسوله بالذكر مقيدا بقيود :

القيد الأول :( واذكر ربك في نفسك ) والمراد بذكر الله في نفسه كونه عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه مستحضرا لصفات الكمال والعز والعلو والجلال والعظمة ، وذلك لأن الذكر باللسان إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب كان عديم الفائدة ، ألا ترى أن الفقهاء أجمعوا على أن الرجل إذا قال : بعت واشتريت مع أنه لا يعرف معاني هذه الألفاظ ولا يفهم منها شيئا ، فإنه لا ينعقد البيع والشراء ، فكذا ههنا ، ويتفرع على ما ذكرنا أحكام :

الحكم الأول

سمعت أن بعض الأكابر من أصحاب القلوب كان إذا أراد أن يأمر واحدا من المريدين بالخلوة والذكر أمره بالخلوة والتصفية أربعين يوما ، ثم عند استكمال هذه المدة وحصول التصفية التامة ، يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين ، ويقول لذلك المريد اعتبر حال قلبك عند سماع هذه الأسماء ، فكل اسم وجدت قلبك عند سماعه قوي تأثره وعظم شوقه ، فاعرف أن الله إنما يفتح أبواب المكاشفات عليك بواسطة المواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه ، وهذا طريق حسن لطيف في هذا الباب .

الحكم الثاني

قال المتكلمون : هذه الآية تدل على إثبات كلام النفس لأنه تعالى لما أمر رسوله بأن يذكر ربه في نفسه وجب الاعتراف بحصول الذكر النفساني ولا معنى لكلام النفس إلا ذلك .

[ ص: 87 ] فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد من الذكر النفساني العلم والمعرفة ؟ .

قلنا : هذا باطل لأن الإنسان لا قدرة له على تحصيل العلم بالشيء ابتداء لأنه إما أن يطلبه حال حصوله أو حال عدم حصوله ، والأول باطل لأنه يقتضي تحصيل الحاصل وهو محال ، والثاني باطل لأن ما لا يكون متصورا كان الذهن غافلا عنه ، والغافل عن الشيء يمتنع كونه طالبا له ، فثبت أنه لا قدرة للإنسان على تحصيل التصورات ، فامتنع ورود الأمر به ، والآية دالة على ورود الأمر بالذكر النفساني ، فوجب أن يكون الذكر النفساني معنى مغايرا للمعرفة والعلم والتصور ، وذلك هو المطلوب .

الحكم الثالث

أنه تعالى قال :( واذكر ربك في نفسك ) ولم يقل : واذكر إلهك ولا سائر الأسماء ، وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه ربا وأضاف نفسه إليه ، وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان ، والمقصود منه أن يصير العبد فرحا عند سماع هذا الاسم ، لأن لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل ، وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام نعم الله عليه ، وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامها ، كما قال تعالى :( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [إبراهيم : 34 ، والنحل : 18] فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء ، فإذا سمع بعد ذلك قوله :( تضرعا وخيفة ) عظم الخوف ، وحينئذ تحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف ، وعنده يكمل الإيمان على ما قال عليه السلام : " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا " إلا أن ههنا دقيقة ، وهي أن سماع لفظ الرب يوجب الرجاء ، وسماع لفظ التضرع والخيفة يوجب الخوف ، فلما وقع الابتداء بما يوجب الرجاء علمنا أن جانب الرجاء أقوى .

القيد الثاني من القيود المعتبرة في الذكر : حصول التضرع ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :( تضرعا ) وهذا القيد معتبر ويدل عليه القرآن والمعقول . أما القرآن فقوله في سورة الأنعام :( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية ) [الأنعام : 63] ، وأما المعقول : فلأن كمال حال الإنسان إنما يحصل بانكشاف أمرين :

أحدهما : عزة الربوبية ، وهذا المقصود إنما يتم بقوله :( واذكر ربك في نفسك ) .

الثاني : بمشاهدة ذلة العبودية ، وذلك إنما يكمل بقوله :( تضرعا ) فالانتقال من الذكر إلى التضرع يشبه النزول من المعراج ، والانتقال من التضرع إلى الذكر يشبه الصعود ، وبهما يتم معراج الأرواح القدسية ، وههنا بحث وهو أن معرفة الله من لوازمها التضرع والخوف ، والذكر القلبي يمتنع انفكاكه عن التضرع والخوف ، فما الفائدة في اعتبار هذا التضرع والخوف ؟ وأجيب عنه بأن المعرفة لا يلزمها التضرع والخوف على الإطلاق ، لأنه ربما استحكم في عقل الإنسان أنه تعالى لا يعاقب أحدا ؛ لأن ذلك العقاب إيذاء للغير ، ولا فائدة للحق فيه ، وإذا كان كذلك لا يعذب ، فإذا اعتقد هذا لم يكمل التضرع والخوف؛ فلهذا السبب نص الله تعالى على أنه لا بد منه .

وأجيب عنه بأن الخوف على قسمين :

الأول : خوف العقاب ، وهو مقام المبتدئين .

والثاني : خوف الجلال وهو مقام المحققين ، وهذا الخوف ممتنع الزوال ، وكل من كان أعرف بجلال الله كان هذا الخوف في قلبه أكمل ، وأجيب عن هذا الجواب بأن لأصحاب المكاشفات مقامين : مكاشفة الجمال ، ومكاشفة الجلال ، فإذا كوشفوا بالجمال عاشوا ، وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا ، ولا بد في مقام الذكر من رعاية الجانبين .

[ ص: 88 ] القيد الثالث : قوله :( وخيفة ) وفي قراءة أخرى : ( وخفية ) وقال الزجاج : أصلها "خوفة" فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، أقول هذا الخوف يقع على وجوه :

أحدها : خوف التقصير في الأعمال .

وثانيها : خوف الخاتمة ، والمحققون خوفهم من السابقة ، لأنه إنما يظهر في الخاتمة ما سبق الحكم به في الفاتحة ، ولذلك كان عليه السلام يقول : "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" .

وثالثها : خوف أني كيف أقابل نعمة الله التي لا حصر لها ولا حد بطاعاتي الناقصة وأذكاري القاصرة ؟ وكان الشيخ أبو بكر الواسطي يقول : الشكر شرك ، فسألوني عن هذه الكلمة فقلت : لعل المراد والله أعلم أن من حاول مقابلة وجوه إحسان الله بشكره فقد أشرك؛ لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد يقول : منك النعمة ومني الشكر ، ولا شك أن هذا شرك ، فأما إذا أتى بالشكر مع خوف التقصير ومع الاعتراف بالذل والخضوع فهناك يشم فيه رائحة العبودية .

وأما القراءة الثانية : وهو قوله : ( وخفية ) فالإخفاء في حق المبتدين يراد لصون الطاعات عن شوائب الرياء والسمعة ، وفي حق المنتهين المقربين منشؤه الغيرة ، وذلك لأن المحبة إذا استكملت أوجبت الغيرة ، فإذا كمل هذا التوغل وحصل الفناء ، وقع الذكر في حين الإخفاء بناء على قوله عليه السلام : " من عرف الله كل لسانه " .

القيد الرابع : قوله :( ودون الجهر من القول ) والمراد منه أن يقع ذلك الذكر بحيث يكون متوسطا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى :( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) [الإسراء : 110] وقال عن زكريا عليه السلام :( إذ نادى ربه نداء خفيا ) [مريم : 3] قال ابن عباس : وتفسير قوله :( ودون الجهر من القول ) المعنى أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه ، فإن المراد حصول الذكر اللساني ، والذكر اللساني إذا كان بحيث يسمع نفسه فإنه يتأثر الخيال من ذلك الذكر ، وتأثر الخيال يوجب قوة في الذكر القلبي الروحاني ، ولا يزال يتقوى كل واحد من هذه الأركان الثلاثة ، وتنعكس أنوار هذه الأذكار من بعضها إلى بعض ، وتصير هذه الانعكاسات سببا لمزيد القوة والجلاء والانكشاف والترقي من حضيض ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام .



التالي السابق


الخدمات العلمية