صفحة جزء
[ ص: 128 ] ( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون )

قوله تعالى :( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) .

اعلم أنه تعالى لما قال في حق الكفار أنهم ما كانوا أولياء البيت الحرام ، وقال :( إن أولياؤه إلا المتقون ) بين بعده ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت ، وهو أن صلاتهم عند البيت وتقربهم وعبادتهم إنما بالمكاء والتصدية . قال صاحب "الكشاف" : المكاء فعال بوزن النغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر ، والمكاء الصفير ؛ ومنه المكاء وهو طائر يألف الريف ، وجمعه المكاكي ، سمي بذلك لكثرة مكائه . وأما التصدية فهي التصفيق ، يقال : صدى يصدي تصدية إذا صفق بيديه ، وفي أصلها قولان :

الأول : أنها من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من جبل .

الثاني : قال أبو عبيدة : أصلها تصددة ، فأبدلت الياء من الدال ، ومنه قوله تعالى :( إذا قومك منه يصدون ) [الزخرف : 57] أي يعجزون ، وأنكر بعضهم هذا الكلام ، والأزهري صحح قول أبي عبيدة . وقال : صدى أصله صدى ، فكثرت الدالات الدالة فقلبت إحداهن ياء .

إذا عرفت هذا فنقول : قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون .

وقال مجاهد : كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزءون به ويصفرون ويخلطون عليه طوافه وصلاته .

وقال مقاتل : كان إذا صلى الرسول في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفير والتصفيق ليخلطوا عليه صلاته . فعلى قول ابن عباس : كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم ، وعلى قول مجاهد ومقاتل ، كان إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم . والأول أقرب لقوله تعالى :( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ) .

فإن قيل : المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف يجوز استثناؤهما عن الصلاة ؟ .

قلنا : فيه وجوه :

الأول : أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة ، فخرج هذا الاستثناء على حسب معتقدهم .

الثاني : أن هذا كقولك وددت الأمير فجعل جفائي صلتي ، أي أقام الجفاء مقام الصلة فكذا ههنا .

الثالث : الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له ، كما تقول العرب : ما لفلان عيب إلا السخاء ، يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له .

ثم قال تعالى :( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) أي عذاب السيف يوم بدر ، وقيل : يقال لهم في الآخرة :( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية