صفحة جزء
المسألة الرابعة : في شرح الألفاظ المشكلة في هذه الآية .

أما قوله :( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) فلقائل أن يقول : كيف حسن إدخال لفظة "كان" على لفظة "يكون" في هذه الآية .

والجواب : قوله( ما كان ) معناه النفي والتنزيه ، أي ما يجب وما ينبغي أن يكون له المعنى المذكور ، ونظيره :( ما كان لله أن يتخذ من ولد ) [ مريم : 35 ] قال أبو عبيدة : يقول : لم يكن لنبي ذلك ، فلا يكون لك ، وأما من قرأ " ما كان للنبي " فمعناه : أن هذا الحكم ما كان ينبغي حصوله لهذا النبي ، وهو محمد عليه الصلاة والسلام .

قال الزجاج : " أسرى " جمع ، و " أسارى " جمع الجمع ، قال : ولا أعلم أحدا قرأ " أسارى " وهي جائزة كما نقلنا عن صاحب "الكشاف" أنه نقل أن بعضهم قرأ به .

وقوله :( حتى يثخن في الأرض ) فيه بحثان :

البحث الأول : قال الواحدي : الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته ، يقال : قد أثخنه المرض إذا اشتد قوة المرض عليه ، وكذلك أثخنه الجراح ، والثخانة الغلظة فكل شيء غليظ فهو ثخين ، فقوله :( حتى يثخن في الأرض ) معناه حتى يقوى ويشتد ويغلب ويبالغ ويقهر ، ثم إن كثيرا من المفسرين قالوا المراد منه : أن يبالغ في قتل أعدائه ، قالوا : وإنما حملنا اللفظ عليه ؛ لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل ، قال الشاعر :


لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم



ولأن كثرة القتل توجب قوة الرعب وشدة المهابة ، وذلك يمنع من الجراءة ، ومن الإقدام على ما لا ينبغي ، فلهذا السبب أمر الله تعالى بذلك .

البحث الثاني : أن كلمة " حتى " لانتهاء الغاية ، فقوله :( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) يدل على أن بعد حصول الإثخان في الأرض له أن يقدم على الأسر .

أما قوله :( تريدون عرض الدنيا ) فالمراد الفداء ، وإنما سمى منافع الدنيا ومتاعها عرضا ؛ لأنه لا ثبات له ولا دوام ، فكأنه يعرض ثم يزول ، ولذلك سمى المتكلمون الأعراض أعراضا ؛ لأنه لا ثبات لها كثبات الأجسام ؛ لأنها تطرأ على الأجسام ، وتزول عنها مع كون الأجسام باقية ، ثم قال :( والله يريد الآخرة ) يعني أنه تعالى لا يريد ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول ، وإنما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الباقية الدائمة المصونة عن التبديل والزوال .

واحتج الجبائي والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول : لا كائن من العبد إلا والله يريده ؛ لأن هذا الأسر وقع منهم على هذا الوجه ، ونص الله على أنه لا يريده بل يريد منهم ما يؤدي إلى ثواب الآخرة وهو الطاعة دون ما يكون فيه عصيان .

وأجاب أهل السنة عنه بأن قالوا : إنه تعالى ما أراد أن يكون هذا الأسر منهم طاعة وعملا جائزا مأذونا ، ولا يلزم من نفي إرادة كون هذا الأسر طاعة نفي كونه مراد الوجود ، وأما الحكماء فإنهم يقولون : الشيء مراد بالعرض مكروه بالذات .

[ ص: 161 ] ثم قال :( والله عزيز حكيم ) والمراد أنكم إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم ؛ لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب حكيم في تدبير مصالح العالم ، قال ابن عباس : هذا الحكم إنما كان يوم بدر ؛ لأن المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) [محمد : 4 ] وأقول : إن هذا الكلام يوهم أن قوله :( فإما منا بعد وإما فداء ) يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها ، وليس الأمر كذلك ؛ لأن كلتا الآيتين متوافقتان ، فإن كلتيهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ، ثم بعده أخذ الفداء .

التالي السابق


الخدمات العلمية