صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ) .

قوله تعالى :( ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم )

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن هذه هي الشبهة الثالثة التي وقعت في قلوب القوم ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما أمر عليا أن يقرأ على مشركي مكة أول سورة براءة ، وينبذ إليهم عهدهم ، وأن الله بريء من المشركين ورسوله ، قال أناس : يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات ، فنزلت هذه الآية لدفع هذه الشبهة ، وأجاب الله تعالى عنها بقوله :( وإن خفتم عيلة ) أي : فقرا وحاجة( فسوف يغنيكم الله من فضله ) فهذا وجه النظم ، وهو حسن موافق .

المسألة الثانية : قال الأكثرون لفظ المشركين يتناول عبدة الأوثان ، وقال قوم : بل يتناول جميع الكفار ، وقد سبقت هذه المسألة ، وصححنا هذا القول بالدلائل الكثيرة ، والذي يفيد ههنا التمسك بقوله :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [النساء : 48] ومعلوم أنه باطل .

المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : النجس مصدر : نجس نجسا وقذر قذرا ، ومعناه ذو نجس ، وقال الليث : النجس الشيء القذر من الناس ومن كل شيء ، ورجل نجس ، وقوم أنجاس ، ولغة أخرى رجل نجس وقوم نجس وفلان نجس ، ورجل نجس وامرأة نجس . واختلفوا في تفسير كون المشرك نجسا نقل صاحب "الكشاف" عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ، وعن الحسن من صافح مشركا توضأ ، وهذا هو قول الهادي من أئمة الزيدية ، وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم .

واعلم أن ظاهر القرآن يدل على كونهم أنجاسا فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصل ، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا أن الاختلاف فيه حاصل ، واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم ، وأيضا لو كان جسمه نجسا لم يبدل ذلك بسبب الإسلام ، والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه : بأن القرآن أقوى من خبر الواحد ، وأيضا فبتقدير صحة الخبر وجب أن يعتقد أن حل الشرب من أوانيهم كان متقدما على نزول هذه الآية ، وبيانه من وجهين :

الأول : أن هذه السورة من آخر ما نزل من القرآن ، وأيضا كانت المخالطة مع الكفار جائزة فحرمها الله تعالى ، وكانت المعاهدات معهم حاصلة فأزالها الله ، فلا يبعد أن يقال أيضا : الشرب من أوانيهم كان جائزا فحرمه الله تعالى .

الثاني : أن الأصل حل الشرب من أي إناء كان ، فلو [ ص: 21 ] قلنا : إنه حرم بحكم الآية ، ثم حل بحكم الخبر فقد حصل نسخان ، أما إذا قلنا : إنه كان حلا لا بحكم الأصل ، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل ، ثم جاء التحريم بحكم هذه الآية لم يحصل النسخ إلا مرة واحدة ، فوجب أن يكون هذا أولى ، أما قول القاضي : لو كان الكافر نجس الجسم لما تبدلت النجاسة بالطهارة بسبب الإسلام . فجوابه أنه قياس في معارضة النص الصريح ، وأيضا أن أصحاب هذا المذهب يقولون إن الكافر إذا أسلم وجب عليه الاغتسال إزالة للنجاسة الحاصلة بحكم الكفر ، فهذا تقرير هذا القول ، وأما جمهور الفقهاء فإنهم حكموا بكون الكافر طاهرا في جسمه ، ثم اختلفوا في تأويل هذه الآية على وجوه :

الأول : قال ابن عباس وقتادة : معناه أنهم لا يغتسلون من الجنابة ، ولا يتوضئون من الحدث .

الثاني : المراد أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب النفرة عنه .

الثالث : أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء .

واعلم أن كل هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل .

التالي السابق


الخدمات العلمية