صفحة جزء
( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) .

قوله تعالى :( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون )

اعلم أن المقصود منه بيان نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنصارى ، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة شرعه وقوة دينه ، والمراد من النور : الدلائل الدالة على صحة نبوته ، وهي أمور كثيرة جدا :

أحدها : المعجزات القاهرة التي ظهرت على [ ص: 32 ] يده ، فإن المعجز إما أن يكون دليلا على الصدق أو لا يكون ، فإن كان دليلا على الصدق ، فحيث ظهر المعجز لا بد من حصول الصدق ، فوجب كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقا ، وإن لم يدل على الصدق قدح ذلك في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام .

وثانيها : القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مع أنه من أول عمره إلى آخره ما تعلم ، وما طالع ، وما استفاد ، وما نظر في كتاب ، وذلك من أعظم المعجزات .

وثالثها : أن حاصل شريعته تعظيم الله والثناء عليه ، والانقياد لطاعته ، وصرف النفس عن حب الدنيا ، والترغيب في سعادات الآخرة ، والعقل يدل على أنه لا طريق إلى الله إلا من هذا الوجه .

ورابعها : أن شرعه كان خاليا عن جميع العيوب ، فليس فيه إثبات ما لا يليق بالله ، وليس فيه دعوة إلى غير الله ، وقد ملك البلاد العظيمة ، وما غير طريقته في استحقار الدنيا ، وعدم الالتفات إليها ، ولو كان مقصوده طلب الدنيا لما بقي الأمر كذلك ، فهذه الأحوال دلائل نيرة ، وبراهين قاهرة في صحة قوله ، ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة ، وأنواع كيدهم ومكرهم ، أرادوا إبطال هذه الدلائل ، فكان هذا جاريا مجرى من يريد إبطال نور الشمس بسبب أن ينفخ فيها ، وكما أن ذلك باطل وعمل ضائع ، فكذا ههنا ، فهذا هو المراد من قوله :( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ) ثم إنه تعالى وعد محمدا صلى الله عليه وسلم مزيد النصرة والقوة ، وإعلاء الدرجة ، وكمال الرتبة ، فقال :( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) .

فإن قيل : كيف جاز أبى الله إلا كذا ، ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيدا ؟

قلنا : أجرى( أبى ) مجرى لم يرد ، والتقدير : ما أراد الله إلا ذلك ، إلا أن الإباء يفيد زيادة عدم الإرادة وهي المنع والامتناع ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " وإن أرادوا ظلمنا أبينا " فامتدح بذلك ، ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم ؛ لأن ذلك يصح من القوي والضعيف ، ويقال : فلان أبى الضيم ، والمعنى ما ذكرناه ، وإنما سمى الدلائل بالنور ؛ لأن النور يهدي إلى الصواب ، فكذلك الدلائل تهدي إلى الصواب في الأديان .

التالي السابق


الخدمات العلمية