1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة التوبة
  4. قوله تعالى إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض
صفحة جزء
وأما قوله :( منها أربعة حرم ) فقد أجمعوا على أن هذه الأربعة ثلاثة منها سرد ، وهي ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وواحد فرد ، وهو رجب ، ومعنى الحرم : أن المعصية فيها أشد عقابا ، والطاعة فيها أكثر ثوابا ، والعرب كانوا يعظمونها جدا حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له .

فإن قيل : أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة ، فما السبب في هذا التمييز ؟ .

قلنا : إن هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع ، فإن أمثلته كثيرة ، ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة ، وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة ، وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة ، وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم ، وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها ، وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر ، وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلعة الرسالة ، وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة ، فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة ، ثم نقول : لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيرا في طهارة النفس ، ووقوع المعاصي فيها أقوى تأثيرا في خبث النفس ، وهذا غير مستبعد عند الحكماء ، ألا ترى أن فيهم من صنف كتبا في الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعوات ، وذكروا أن تلك الأوقات المعينة حصلت فيها أسباب توجب ذلك . وسئل النبي عليه الصلاة والسلام : أي الصيام أفضل ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : "أفضله بعد صيام شهر رمضان صيام شهر الله المحرم" وقال عليه الصلاة والسلام : " من صام يوما من أشهر الله الحرم كان له بكل يوم ثلاثون يوما " وكثير من الفقهاء غلظوا الدية على القاتل بسبب وقوع القتل في هذه الأشهر ، وفيه فائدة أخرى : وهي أن الطباع مجبولة على الظلم والفساد وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاق عليهم ، فالله سبحانه وتعالى خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام ، وخص بعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام ، حتى إن [ ص: 43 ] الإنسان ربما امتنع في تلك الأزمنة ، وفي تلك الأمكنة من القبائح والمنكرات ، وذلك يوجب أنواعا من الفضائل والفوائد :

أحدها : أن ترك تلك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب ؛ لأنه يقل القبائح .

وثانيها : أنه لما تركها في تلك الأوقات فربما صار تركه لها في تلك الأوقات سببا لميل طبعه إلى الإعراض عنها مطلقا .

وثالثها : أن الإنسان إذا أتى بالطاعات في تلك الأوقات ، وأعرض عن المعاصي فيها ، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في القبائح والمعاصي صار شروعه فيها سببا لبطلان ما تحمله من العناء والمشقة في أداء تلك الطاعات في تلك الأوقات ، والظاهر من حال العاقل أن لا يرضى بذلك فيصير ذلك سببا لاجتنابه عن المعاصي بالكلية ، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأوقات ، وبعض البقاع بمزيد التعظيم والاحترام .

التالي السابق


الخدمات العلمية