صفحة جزء
أما قوله :( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قال النحويون : في الآية محذوف ، كأنه قيل : إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم ، ويجوز أيضا أن يكون هذا اللام بمعنى " أن " كقوله :( يريد الله ليبين لكم ) [ النساء : 26 ] . أي : أن يبين لكم .

المسألة الثانية : قال مجاهد والسدي وقتادة : في الآية تقديم وتأخير . والتقدير : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . وقال القاضي : وههنا سؤالان : الأول : وهو أن يقال : المال والولد لا يكونان عذابا ، بل هما من جملة النعم التي من الله بها على عباده ، فعند هذا التزم هؤلاء التقديم والتأخير ، إلا أن هذا الالتزام لا يدفع هذا السؤال ؛ لأنه يقال بعد هذا التقديم والتأخير ، [ ص: 75 ] فكيف يكون المال والولد عذابا ؟ فلا بد لهم من تقدير حذف في الكلام بأن يقولوا : أراد التعذيب بها من حيث كانت سببا للعذاب ، وإذا قالوا ذلك فقد استغنوا عن التقديم والتأخير ؛ لأنه يصح أن يقال : يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا من حيث كانت سببا للعذاب ، وأيضا فلو أنه قال : " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا " لم يكن لهذه الزيادة كثير فائدة ؛ لأن من المعلوم أن الإعجاب بالمال والولد لا يكون إلا في الدنيا ، وليس كذلك حال العذاب ؛ فإنها قد تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة ، فثبت أن القول بهذا التقديم والتأخير ليس بشيء .

المسألة الثالثة : الأموال والأولاد يحتمل أن تكون سببا للعذاب في الدنيا ، ويحتمل أن تكون سببا للعذاب في الآخرة . أما كونها سببا للعذاب في الدنيا فمن وجوه :

الأول : أن كل من كان حبه للشيء أشد وأقوى ، كان حزنه وتألم قلبه على فواته أعظم وأصعب ، وكان خوفه على فواته أشد وأصعب ، فالذين حصلت لهم الأموال الكثيرة والأولاد إن كانت تلك الأشياء باقية عندهم كانوا في ألم الخوف الشديد من فواتها ، وإن فاتت وهلكت كانوا في ألم الحزن الشديد بسبب فواتها . فثبت أنه بحصول موجبات السعادات الجسمانية لا ينفك عن تلك القلب ؛ إما بسبب خوف فواتها ، وإما بسبب الحزن من وقوع فواتها .

والثاني : أن هذه يحتاج في اكتسابها وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة ، ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأشق وأصعب وأعظم في حفظها ، فكان حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه ، فالمشغوف بالمال والولد أبدا يكون في تعب الحفظ والصون عن الهلاك ، ثم إنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال ، فالتعب كثير والنفع قليل .

والثالث : أن الإنسان إذا عظم حبه لهذه الأموال والأولاد ، فإما أن تبقى عليه هذه الأموال والأولاد إلى آخر عمره أو لا تبقى ، بل تهلك وتبطل . فإن كان الأول ، فعند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته ؛ لأن مفارقة المحبوب شديدة ، وترك المحبوب أشد وأشق ، وإن كان الثاني وهو أن هذه الأشياء تهلك وتبطل حال حياة الإنسان عظم أسفه عليها ، واشتد تألم قلبه بسببها ، فثبت أن حصول الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا .

الرابع : أن الدنيا حلوة خضرة ، والحواس مائلة إليها ، فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها وانصرفت النفس بكليتها إليها ، فيصير ذلك سببا لحرمانه عن ذكر الله ، ثم إنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوة وقهر ، وكلما كان المال والجاه أكثر ، كانت تلك القسوة أقوى ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ العلق : 6 ] . فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سبب قوي في زوال حب الله وحب الآخرة عن القلب ، وفي حصول حب الدنيا وشهواتها في القلب ، فعند الموت كأن الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن ، ومن مجالسة الأقرباء والأحباء إلى موضع الكربة والغربة ، فيعظم تألمه وتقوى حسرته ، ثم عند الحشر حلالها حساب ، وحرامها عقاب ، فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة .

فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكل ، فما الفائدة في تخصيص هؤلاء المنافقين بهذا العذاب ؟

قلنا : المنافقون مخصوصون بزيادات في هذا الباب :

أحدها : أن الرجل إذا آمن بالله واليوم الآخر علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا ، فبهذا العلم يفتر حبه للدنيا ، وأما المنافق لما اعتقد أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة عظمت رغبته فيها ، واشتد حبه لها ، وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه ، [ ص: 76 ] وتقوى عند قرب الموت وظهور علاماته ، فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب حب الأموال والأولاد .

وثانيها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات ، ويكلفهم إرسال أموالهم وأولادهم إلى الجهاد والغزو ، وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل ، والقوم كانوا يعتقدون أن محمدا ليس بصادق في كونه رسولا من عند الله ، وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة ، وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة ، ولا شك أن هذا أشق على القلب جدا ، فهذه الزيادة من التعذيب كانت حاصلة للمنافقين .

وثالثها : أنهم كانوا يبغضون محمدا عليه الصلاة والسلام بقلوبهم ، ثم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم في خدمته ، ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة .

ورابعها : أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهورا تاما ، فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار ، وحينئذ يتعرض الرسول لهم بالقتل ، وسبي الأولاد ونهب الأموال ، وكلما نزلت آية خافوا من ظهور الفضيحة ، وكلما دعاهم الرسول خافوا من أنه ربما وقف على وجه من وجوه مكرهم وخبثهم ، وكل ذلك مما يوجب تألم القلب ومزيد العذاب .

وخامسها : أن كثيرا من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء ، كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة ، وعبد الله بن عبد الله بن أبي ، شهد بدرا وكان من الله بمكان ، وهم خلق كثير مبرؤون عن النفاق ، وهم كانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق ، ويقدحون فيهم ، ويعترضون عليهم ، والابن إذا صار هكذا عظم تأذي الأب به واستيحاشه منه ، فصار حصول تلك الأولاد سببا لعذابهم .

وسادسها : أن فقراء الصحابة وضعافهم كانوا يذهبون في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الغزوات ، ثم يرجعون مع الاسم الشريف والثناء العظيم والفوز بالغنائم ، وهؤلاء المنافقون مع الأموال الكثيرة والأولاد الأقوياء ، كانوا يبقون في زوايا بيوتهم أشباه الزمنى والضعفاء من الناس ، ثم إن الخلق ينظرون إليهم بعين المقت والازدراء والسمة بالنفاق ، وكأن كثرة الأموال والأولاد صارت سببا لحصول هذه الأحوال ، فثبت بهذه الوجوه أن كثرة أموالهم وأولادهم صارت سببا لمزيد العذاب في الدنيا في حقهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية