صفحة جزء
( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) .

قوله تعالى :( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) .

اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعد في الآية الأولى على سبيل الإجمال ذكره في هذه الآية على سبيل التفصيل ؛ وذلك لأنه تعالى وعد بالرحمة ، ثم بين في هذه الآية أن تلك الرحمة هي هذه الأشياء ، فأولها قوله :( جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) . والأقرب أن يقال : إنه تعالى أراد بها البساتين التي يتناولها المناظر ؛ لأنه تعالى قال بعده :( ومساكن طيبة في جنات عدن ) . والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه ، فتكون مساكنهم في جنات عدن ، ومناظرهم الجنات التي هي البساتين ، فتكون فائدة وصفها بأنها عدن ، أنها تجري مجرى الدار التي يسكنها الإنسان . وأما الجنات الآخرة فهي جارية مجرى البساتين التي قد يذهب الإنسان إليها لأجل التنزه وملاقاة الأحباب .

وثانيها : قوله :( ومساكن طيبة في جنات عدن ) قد كثر كلام أصحاب الآثار في صفة جنات عدن ، قال الحسن : سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن قوله : [ ص: 106 ] ( ومساكن طيبة ) فقالا : على الخبير سقطت ، سألنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم : " هو قصر في الجنة من اللؤلؤ ، فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرا ، على كل سرير سبعون فراشا ، على كل فراش زوجة من الحور العين ، في كل بيت سبعون مائدة ، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام ، وفي كل بيت سبعون وصيفة ، يعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع " .

وعن ابن عباس أنها دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر . وأقول : لعل ابن عباس قال : إنها دار المقربين عند الله فإنه كان أعلم بالله من أن يثبت له دارا ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله ، حدثني عن الجنة ما بناؤها ؟ فقال : " لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وملاطها المسك الأذفر ، وترابها الزعفران ، وحصاؤها الدر والياقوت ، فيها النعيم بلا بؤس ، والخلود بلا موت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه " .

وقال ابن مسعود : جنات عدن بطنان الجنة ، قال الأزهري : بطنانها وسطها ، وبطنان الأودية المواضع التي يستنقع فيها ماء السيل ، واحدها بطن ، وقال عطاء عن ابن عباس : هي قصبة الجنة ، وسقفها عرش الرحمن ، وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، وسائر الجنات حولها ، وفيها عين التسنيم ، وفيها قصور الدر والياقوت والذهب ، فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر .

وقال عبد الله بن عمرو : إن في الجنة قصرا يقال له : عدن ، حوله البروج ، وله خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حرة ، لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد .

وأقول : حاصل الكلام أن في جنات عدن قولين : أحدهما : أنه اسم علم لموضع معين في الجنة ، وهذه الأخبار والآثار التي نقلناها تقوي هذا القول . قال صاحب الكشاف : وعدن علم بدليل قوله :( جنات عدن التي وعد الرحمن ) [ مريم : 61 ] .

والقول الثاني : أنه صفة للجنة ، قال الأزهري : العدن مأخوذ من قولك : عدن فلان بالمكان إذا أقام به يعدن عدونا . والعرب تقول : تركت إبل بني فلان عوادن بمكان كذا ، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه ، ومنه المعدن ، وهو المكان الذي تخلق الجواهر فيه ومنبعها منه . والقائلون بهذا الاشتقاق قالوا : الجنات كلها جنات عدن .

والنوع الثالث : من المواعيد التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قوله :( ورضوان من الله أكبر ) والمعنى : أن رضوان الله أكبر من كل ما سلف ذكره ، واعلم أن هذا هو البرهان القاطع على أن السعادات الروحانية أشرف وأعلى من السعادات الجسمانية ؛ وذلك لأنه إما أن يكون الابتهاج بكون مولاه راضيا عنه ، وأن يتوسل بذلك الرضا إلى شيء من اللذات الجسمانية أو ليس الأمر كذلك ، بل علمه بكونه راضيا عنه يوجب الابتهاج والسعادة لذاته من غير أن يتوسل به إلى مطلوب آخر ، والأول باطل ؛ لأن ما كان وسيلة إلى الشيء لا يكون أعلى حالا من ذلك المقصود ، فلو كان المقصود من رضوان الله أن يتوسل به إلى اللذات التي أعدها الله في الجنة من الأكل والشرب ، لكان الابتهاج بالرضوان ابتهاجا بالمقصود ، وقد ذكرنا أن الابتهاج بالوسيلة لا بد وأن يكون أقل حالا من الابتهاج بالمقصود ، فوجب أن يكون رضوان الله أقل حالا وأدون مرتبة من الفوز بالجنات والمساكن الطيبة ، لكن الأمر ليس كذلك ؛ لأنه تعالى نص على أن الفوز بالرضوان أعلى وأعظم وأجل وأكبر ، وذلك دليل قاطع على أن السعادات الروحانية أكمل وأشرف من السعادات الجسمانية .

واعلم أن المذهب الصحيح الحق وجوب الإقرار بهما معا كما جمع الله بينهما في هذه الآية .

[ ص: 107 ] ولما ذكر تعالى هذه الأمور الثلاثة قال :( ذلك هو الفوز العظيم ) ، وفيه وجهان :

الأول : أن الإنسان مخلوق من جوهرين ؛ لطيف علوي روحاني ، وكثيف سفلي جسماني ، وانضم إليهما حصول سعادة وشقاوة ، فإذا حصلت الخيرات الجسمانية وانضم إليها حصول السعادات الروحانية كانت الروح فائزة بالسعادات اللائقة بها ، والجسد واصلا إلى السعادات اللائقة به ، ولا شك أن ذلك هو الفوز العظيم .

الثاني : أنه تعالى بين في وصف المنافقين أنهم تشبهوا بالكفار الذين كانوا قبلهم في التنعم بالدنيا وطيباتها ، ثم إنه تعالى بين في هذه الآية وصف ثواب المؤمنين ، ثم قال :( ذلك هو الفوز العظيم ) والمعنى : أن هذا هو الفوز العظيم ، لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا . وروي أنه تعالى يقول لأهل الجنة : " هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : أما أعطيكم أفضل من ذلك ؟ قالوا : وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا " .

واعلم أن دلالة هذا الحديث على أن السعادات الروحانية أفضل من الجسمانية كدلالة الآية ، وقد تقدم تقريره على الوجه الكامل .

التالي السابق


الخدمات العلمية