1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة التوبة
  4. قوله تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم
صفحة جزء
المسألة الخامسة : كنت قد ذكرت لطائف في قول بعضهم لبعض : سلام عليكم ، وهي غير لائقة بهذا الموضع إلا أني رأيت أن أكتبها ههنا لئلا تضيع ، فقلت : إذا قال الرجل لغيره سلام عليكم . فقوله : سلام عليكم مبتدأ وهو نكرة ، وزعموا أن جعل النكرة مبتدأ لا يجوز ، قالوا : لأن الإخبار إنما يفيد إذا أخبر على المعلوم بأمر غير معلوم ، إلا أنهم قالوا : النكرة إذا كانت موصوفة حسن جعلها مبتدأ كما في قوله تعالى :( ولعبد مؤمن خير من مشرك ) ( البقرة : 221 ) .

إذا عرفت هذا فههنا وجهان :

الأول : أن التنكير يدل على الكمال ، ألا ترى إلى قوله تعالى :( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ( البقرة : 96 ) والمعنى : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة دائمة كاملة غير منقطعة .

إذا ثبت هذا فقوله : (سلام) لفظة منكرة ، فكان المراد منه سلام كامل تام ، وعلى هذا التقدير : فقد صارت هذه النكرة موصوفة ، فصح جعلها مبتدأ ، وإذا كان كذلك فحينئذ يحصل الخبر وهو قوله : ( عليكم ) والتقدير : سلام كامل تام عليكم .

والثاني : أن يجعل قوله : ( عليكم ) صفة لقوله : ( سلام ) فيكون مجموع قوله : "سلام عليكم" مبتدأ ويضمر له خبر ، والتقدير : سلام عليكم واقع كائن حاصل ، وربما كان حذف الخبر أدل على التهويل والتفخيم .

إذا عرفت هذا فنقول : إنه عند الجواب يقلب هذا الترتيب فيقال : وعليكم السلام ، والسبب فيه ما قاله سيبويه : أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى ، فلما قال وعليكم السلام دل على أن اهتمام هذا المجيب بشأن ذلك القائل شديد كامل ، وأيضا فقوله : ( وعليكم السلام ) يفيد الحصر ، فكأنه يقول إن كنت قد أوصلت السلام إلي فأنا أزيد عليه وأجعل السلام مختصا بك ومحصورا فيك امتثالا لقوله تعالى :( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) ( النساء : 86 ) ومن لطائف قوله : ( سلام عليكم ) أنها أكمل من قوله : ( السلام عليك" وذلك لأن قوله : "سلام عليك ) معناه : سلام كامل تام شريف رفيع عليك . وأما قوله : السلام عليك ، فالسلام لفظ مفرد محلى بالألف واللام ، وأنه لا يفيد إلا أصل الماهية ، واللفظ الدال على أصل الماهية لا إشعار فيه بالأحوال العارضة للماهية وبكمالات الماهية ، فكان قوله : (سلام عليك ) أكمل من قوله : ( السلام عليك ) ومما يؤكد هذا المعنى أنه أينما جاء لفظ (السلام) من الله تعالى ورد على سبيل التنكير ، كقوله :( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ) ( الأنعام : 54 ) وقوله :( قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ) ( النمل : 59 ) وفي القرآن من هذا الجنس كثير . أما لفظ (السلام) بالألف واللام ، فإنما جاء من الأنبياء - عليهم السلام - ، كقول موسى - عليه السلام - :( قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى ) ( طه : 47 ) وأما في سورة مريم فلما ذكر الله يحيى - عليه السلام - قال :( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ) ( مريم : 15 ) وهذا السلام من الله تعالى ، وفي قصة عيسى - عليه السلام - قال :( والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ) ( مريم : 33 ) وهذا كلام عيسى - عليه السلام - . فثبت بهذه الوجوه أن قوله : (سلام عليك ) أكمل من قوله : (السلام [ ص: 145 ] عليك ) فلهذا السبب اختار الشافعي - رحمه الله - في قراءة التشهد قوله : سلام عليك أيها النبي على سبيل التنكير ، ومن لطائف السلام أنه لا شك أن هذا العالم معدن الشرور والآفات والمحن والمخالفات ، واختلف العلماء الباحثون عن أسرار الأخلاق ، أن الأصل في جبلة الحيوان الخير أو الشر ؟ فمنهم من قال : الأصل فيها الشر ، وهذا كالإجماع المنعقد بين جميع أفراد الإنسان ، بل نزيد ونقول : إنه كالإجماع المنعقد بين جميع الحيوان ، والدليل عليه أن كل إنسان يرى إنسانا يعدو إليه مع أنه لا يعرفه ، فإن طبعه يحمله على الاحتراز منه والتأهب لدفعه ، ولولا أن طبعه يشهد بأن الأصل في الإنسان الشر ، وإلا لما أوجبت فطرة العقل التأهب لدفع شر ذلك الساعي إليه ، بل قالوا : هذا المعنى حاصل في كل الحيوانات ، فإن كل حيوان عدا إليه حيوان آخر فر ذلك الحيوان الأول واحترز منه ، فلو تقرر في طبعه أن الأصل في هذا الواصل هو الخير لوجب أن يقف ؛ لأن أصل الطبيعة يحمل على الرغبة في وجدان الخير ، ولو كان الأصل في طبع الحيوان أن يكون خيره وشره على التعادل والتساوي ، وجب أن يكون الفرار والوقوف متعادلين ، فلما لم يكن الأمر كذلك بل كل حيوان توجه إليه حيوان مجهول الصفة عند الأول ، فإن ذلك الأول يحترز عنه بمجرد فطرته الأصلية ، علمنا أن الأصل في الحيوان هو الشر .

إذا ثبت هذا فنقول : دفع الشر أهم من جلب الخير ، ويدل عليه وجوه :

الأول : أن دفع الشر يقتضي إبقاء الأصل [ لأن إبقاء الأصل ] أهم من تحصيل الزائد .

والثاني : أن إيصال الخير إلى كل أحد ليس في الوسع ، أما كف الشر عن كل أحد داخل في الوسع ، لأن الأول فعل والثاني ترك ، وفعل ما لا نهاية له غير ممكن ، أما ترك ما لا نهاية له ممكن .

والثالث : أنه إذا لم يحصل دفع الشر فقد حصل الشر ، وذلك يوجب حصول الألم والحزن ، وهو في غاية المشقة ، وأما إذا لم يحصل أيضا إيصال الخير بقي الإنسان لا في الخير ولا في الشر ، بل على السلامة الأصلية ، وتحمل هذه الحالة سهل . فثبت أن دفع الشر أهم من إيصال الخير ، وثبت أن الدنيا دار الشرور والآفات والمحن والبليات ، وثبت أن الحيوان في أصل الخلقة وموجب الفطرة منشأ للشرور ، وإذا وصل إنسان إلى إنسان كان أهم المهمات أن يعرفه أنه منه في السلامة والأمن والأمان ، فلهذا السبب وقع الاصطلاح على أن يقع ابتداء الكلام بذكر السلام ، وهو أن يقول (سلام عليكم) ومن لطائف قولنا (سلام عليكم) أن ظاهره يقتضي إيقاع السلام على جماعة ، والأمر كذلك بحسب العقل ، وبحسب الشرع . أما بحسب الشرع فلأن القرآن دل على أن الإنسان لا يخلو عن جمع من الملائكة يحفظونه ويراقبون أمره ، كما قال تعالى :( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) ( الانفطار : 11 ) والعقل أيضا يدل عليه ، وذلك لأن الأرواح البشرية أنواع مختلفة ، فبعضها أرواح خيرة عاقلة ، وبعضها كدرة خبيثة ، وبعضها شهوانية ، وبعضها غضبية ، ولكل طائفة من طوائف الأرواح البشرية السفلية روح علوي قوي يكون كالأب لتلك الأرواح البشرية ، وتكون هذه الأرواح بالنسبة إلى ذلك الروح العلوي كالأبناء بالنسبة إلى الأب ، وذلك الروح العلوي هو الذي يخصها بالإلهامات ، تارة في اليقظة ، وتارة في النوم . وأيضا الأرواح المفارقة عن أبدانها المشاكلة لهذه الأرواح في الصفات والطبيعة والخاصية . يحصل لها نوع تعلق بهذا البدن بسبب المشاكلة والمجانسة ، وتصير كالمعاونة لهذه الروح على أعمالها إن خيرا فخير وإن شرا فشر . وإذا عرفت هذا السر فالإنسان لا بد وأن يكون مصحوبا بتلك الأرواح المجانسة له ، فقوله : (سلام عليكم) إشارة إلى تسليم هذا الشخص المخصوص على جميع الأرواح الملازمة المصاحبة إياه بسبب المصاحبة الروحانية . ومن لطائف هذا الباب ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ [ ص: 146 ] أن الأرواح الإنسانية إذا اتصفت بالمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة ، وقويت وتجردت ، ثم قوي تعلق بعضها ببعض انعكس أنوارها بعضها على بعض على مثال المرآة المشرقة المتقابلة . فلهذا السبب فإن أراد أن يقرأ وظيفة على أستاذه فالأدب أن يبدأ بحمد الله والثناء على الملائكة والأنبياء ، ثم يدعو لأستاذه ثم يشرع في القراءة ، والمقصود منها أن يقوي التعلق بين روحه وبين هذه الأرواح المقدسة الطاهرة ، حتى أن بسبب قوة ذلك التعلق ربما ظهر شيء من أنوارها وآثارها في روح هذا الطالب ، فيستقر في عقله من الأنوار الفائضة منها ، ويقوي روحه بمدد ذلك الفيض على إدراك المعارف والعلوم . إذا عرفت هذا فإذا قال لغيره : (سلام عليكم) حدث بينهما تعلق شديد ، وحصل بسبب ذلك التعلق تطابق الأرواح وتعاكس الأنوار ، ولنكتف بهذا القدر في هذا الباب ، فإنا قد ذكرنا أن هذا الفصل أجنبي عن هذا الكلام . والله أعلم .

المسألة السادسة : قوله :( إن صلاتك سكن لهم ) قال الواحدي : السكن في اللغة : ما سكنت إليه ، والمعنى : أن صلاتك عليهم توجب سكون نفوسهم إليك ، وللمفسرين عبارات : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : دعاؤك رحمة لهم . وقال قتادة : وقار لهم . وقال الكلبي : طمأنينة لهم ، وقال الفراء : إذا استغفرت لهم سكنت نفوسهم إلى أن الله تعالى قبل توبتهم . وأقول : إن روح محمد - عليه السلام - كانت روحا قوية مشرقة صافية باهرة ، فإذا دعا محمد لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم ، فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم ، وانتقلوا من الظلمة إلى النور ، ومن الجسمانية إلى الروحانية ، وتقريره ما تقدم في المسألة الخامسة .

ثم قال :( والله سميع ) لقولهم :( عليم ) بنياتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية