ثم قال تعالى :( 
فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين   ) وفيه مباحث : 
البحث الأول : أنه تعالى رجح مسجد التقوى بأمرين : أحدهما : أنه بني على التقوى ، وهو الذي تقدم تفسيره . 
والثاني : أن فيه رجالا يحبون أن يتطهروا ، وفي تفسير هذه الطهارة قولان : الأول : المراد منه التطهر عن الذنوب والمعاصي ، وهذا القول متعين لوجوه : 
أولها : أن التطهر عن الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى واستحقاق ثوابه ومدحه . 
والثاني : أنه تعالى وصف أصحاب 
مسجد الضرار  بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين ، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم . وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي . 
والثالث : أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر وقدر عند الله لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي ، أما لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي ، ولم تحصل نظافة الظاهر ،   
[ ص: 156 ] كأن طهارة الباطن لها أثر ، فكان طهارة الباطن أولى . 
الرابع : روى صاحب "الكشاف" : أنه 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012893لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه المهاجرون  حتى وقف على باب مسجد قباء  ، فإذا الأنصار  جلوس ، فقال : "أمؤمنون أنتم" ؟ فسكت القوم ثم أعادها . فقال عمر    : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم ; فقال عليه السلام : "أترضون بالقضاء" ؟ قالوا نعم . قال : "أتصبرون على البلاء" ؟ قالوا : نعم ، قال : "أتشكرون في الرخاء" ؟ قالوا : نعم ، قال عليه السلام : "مؤمنون ورب الكعبة    " ثم قال : "يا معشر الأنصار  إن الله أثنى عليكم فما الذي تصنعون في الوضوء" قالوا : نتبع الماء الحجر . فقرأ النبي عليه السلام :( فيه رجال يحبون أن يتطهروا   ) الآية . 
والقول الثاني : أن المراد منه 
الطهارة بالماء بعد الحجر   . وهو قول أكثر المفسرين من أهل الأخبار . 
والقول الثالث : أنه محمول على كلا الأمرين ، وفيه سؤال : وهو أن لفظ الطهارة حقيقة في الطهارة عن النجاسات العينية ، ومجاز في البراءة عن المعاصي والذنوب ، واستعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معا لا يجوز . 
والجواب : أن لفظ النجس اسم للمستقذر ، وهو القدر مفهوم مشترك فيه بين القسمين وعلى هذا التقدير ، فإنه يزول السؤال ، ثم إنه تعالى أعاد السبب الأول ، وهو كون المسجد مبنيا على التقوى ، فقال :( 
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير   ) وفيه مباحث . 
البحث الأول : البنيان مصدر كالغفران ، والمراد ههنا المبني ، وإطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور ، يقال هذا ضرب الأمير ونسج زيد ، والمراد مضروبه ومنسوجه ، وقال 
الواحدي    : يجوز أن يكون بنيان جمع بنيانة إذا جعلته اسما ، لأنهم قالوا : بنيانة في الواحد . 
البحث الثاني : قرأ 
نافع  وابن عامر    ( أفمن أسس بنيانه ) على فعل ما لم يسم فاعله ، وذلك الفاعل هو الباني والمؤسس ، أما 
قوله :( على تقوى من الله ورضوان   ) أي : للخوف من عقاب الله والرغبة في ثوابه ، وذلك لأن الطاعة لا تكون طاعة إلا عند هذه الرهبة والرغبة ، وحاصل الكلام أن الباني لما بنى ذلك البناء لوجه الله تعالى وللرهبة من عقابه ، والرغبة في ثوابه ، كان ذلك البناء أفضل وأكمل من البناء الذي بناه الباني لداعية الكفر بالله والإضرار بعباد الله ، أما قوله :( 
أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم   ) ففيه مباحث : 
البحث الأول : قرأ 
ابن عامر  وحمزة  وأبو بكر  عن 
عاصم    (جرف ) ساكنة الراء والباقون بضم الراء وهما لغتان ، جرف وجرف كشغل وشغل وعنق وعنق . 
البحث الثاني : قال 
أبو عبيدة    : الشفا الشفير ، وشفا الشيء حرفه ، ومنه يقال : أشفى على كذا إذا دنا منه ، والجرف : هو ما إذا سال السيل وانحرف الوادي ويبقى على طرف السيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة . فذلك الشيء هو الجرف ، وقوله :( 
هار   ) قال 
الليث    : الهور مصدر هار الجرف يهور ، إذا انصدع من خلفه ، وهو ثابت بعد في مكانه ، وهو جرف هار هائر ، فإذا سقط فقد انهار وتهور . 
إذا عرفت هذه الألفاظ فنقول : المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير ، أمن أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء ، وهو الباطل ؟ والنفاق   
[ ص: 157 ] الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فلكونه( 
شفا جرف هار   ) كان مشرفا على السقوط ، ولكونه على طرف جهنم ، كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم ، ولا نرى في العالم مثالا أكثر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال ، وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه ، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر ، فكان البناء الأول شريفا واجب الإبقاء ، وكان الثاني خسيسا واجب الهدم .