صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين )

قوله تعالى :( ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين )

اعلم أنه نقل عن الحسن أنه قال : هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة ، ثم إنها صارت منسوخة بقوله :( وقاتلوا المشركين كافة ) ( التوبة : 36 ) وأما المحققون فإنهم أنكروا هذا النسخ وقالوا : إنه تعالى لما أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم في ذلك الباب إلى الطريق الأصوب الأصلح ، وهو أن يبتدئوا من الأقرب فالأقرب منتقلا إلى الأبعد فالأبعد . ألا ترى أن أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب قال تعالى :( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ( الشعراء : 214 ) وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب لأنه عليه السلام حارب قومه ، ثم انتقل منهم إلى غزو سائر العرب ثم انتقل منهم إلى غزو الشام ، والصحابة - رضي الله عنهم - لما فرغوا من أمر الشام دخلوا العراق . وإنما قلنا : إن الابتداء بالغزو من المواضع القريبة أولى لوجوه :

الأول : أن مقابلة الكل دفعة واحدة متعذرة ، ولما تساوى الكل في وجوب القتال لما فيهم من الكفر والمحاربة وامتنع الجمع ، وجب الترجيح ، [ ص: 182 ] والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة ، وكما في سائر المهمات ، ألا ترى أن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الابتداء بالحاضر أولى من الذهاب إلى البلاد البعيدة لهذا المهم ، فوجب الابتداء بالأقرب .

والثاني : أن الابتداء بالأقرب أولى لأن النفقات فيه أقل ، والحاجة إلى الدواب والآلات والأدوات أقل .

الثالث : أن الفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة .

الرابع : أن المجاورين لدار الإسلام إما أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء ، فإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد وأكثر من تعرض الكفار المتباعدين ، والشر الأقوى الأكثر أولى بالدفع ، وإن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل ، وحصول عز الإسلام لسبب انكسارهم أقرب وأيسر ، فكان الابتداء بهم أولى .

الخامس : أن وقوف الإنسان على حال من يقرب منه أسهل من وقوفه على حال من يبعد منه ، وإذا كان كذلك كان اقتدار المسلمين على مقاتلة الأقربين أسهل لعلمهم بكيفية أحوالهم وبمقادير أسلحتهم وعدد عساكرهم .

السادس : أن دار الإسلام واسعة ، فإذا اشتغل أهل كل بلد بقتال من يقرب منهم من الكفار كانت المؤنة أسهل ، وحصول المقصود أيسر .

السابع : أنه إذا اجتمع واجبان وكان أحدهما أيسر حصولا وجب تقديمه ، والقرب سبب السهولة ، فوجب الابتداء بالأقرب .

الثامن : أنا بينا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ في الدعوة بالأقرب فالأقرب ، وفي الغزو بالأقرب فالأقرب ، وفي جميع المهمات كذلك ، فإن الأعرابي لما جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال عليه السلام له : " كل مما يليك " فدلت هذه الوجوه على أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب .

فإن قيل : ربما كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح ؛ لأن الأبعد يقع في قلبه أنه إنما جاوز الأقرب لأنه لا يقيم له وزنا .

قلنا : ذاك احتمال واحد ، وما ذكرنا احتمالات كثيرة ، ومصالح الدنيا مبنية على ترجيح ما هو أكثر مصلحة على ما هو الأقل ، وهذا الذي قلناه إنما قلناه إذا تعذر الجمع بين مقاتلة الأقرب والأبعد ، أما إذا أمكن الجمع بين الكل ، فلا كلام في أن الأولى هو الجمع ، فثبت أن هذه الآية غير منسوخة البتة .

وأما قوله تعالى :( وليجدوا فيكم غلظة ) قال الزجاج : فيها ثلاث لغات ، فتح الغين وضمها وكسرها . قال صاحب "الكشاف" : الغلظة بالكسر الشدة العظيمة ، والغلظة كالضغطة ، والغلظة كالسخطة ، وهذه الآية تدل على الأمر بالتغليظ عليهم ، ونظيره قوله تعالى :( واغلظ عليهم ) ( التوبة : 73 ) وقوله :( ولا تهنوا ) ( آل عمران : 139 ) وقوله في صفة الصحابة - رضي الله عنهم - :( أعزة على الكافرين ) ( المائدة : 40 ) وقوله :( أشداء على الكفار ) ( الفتح : 29 ) وللمفسرين عبارات في تفسير الغلظة ، قيل شجاعة وقيل شدة وقيل غيظا .

واعلم أن الغلظة ضد الرقة ، وهي الشدة في إحلال النقمة ، والفائدة فيها أنها أقوى تأثيرا في الزجر والمنع عن القبيح ، ثم إن الأمر في هذا الباب لا يكون مطردا ، بل قد يحتاج تارة إلى الرفق واللطف وأخرى إلى العنف ، ولهذا السبب قال :( وليجدوا فيكم غلظة ) تنبيها على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة البتة فإنه ينفر ويوجب تفرق القوم ، فقوله :( وليجدوا فيكم غلظة ) يدل على تقليل الغلظة ، كأنه قيل لا بد وأن يكونوا بحيث لو فتشوا على أخلاقكم وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة ، وهذا الكلام إنما يصح فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة ، ومع ذلك فلا يخلو عن نوع غلظة .

[ ص: 183 ] واعلم أن هذه الغلظة إنما تعتبر فيما يتصل بالدعوة إلى الدين . وذلك إما بإقامة الحجة والبينة ، وإما بالقتال والجهاد ، فأما أن يحصل هذا التغليظ فيما يتصل بالبيع والشراء والمجالسة والمؤاكلة فلا .

ثم قال :( واعلموا أن الله مع المتقين ) والمراد أن يكون إقدامه على الجهاد والقتال بسبب تقوى الله لا بسبب طلب المال والجاه ، فإذا رآه قبل الإسلام أحجم عن قتاله ، وإذا رآه مال إلى قبول الجزية تركه ، وإذا كثر العدو أخذ الغنائم على وفق حكم الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية