صفحة جزء
المسألة الرابعة : ( أن ) مع الفعل في قولنا : ( أن أوحينا ) في تقدير المصدر وهو اسم كان ، وخبره هو [ ص: 7 ] قوله : ( عجبا ) وإنما تقدم الخبر على المبتدأ هاهنا ؛ لأنهم يقدمون الأهم ، والمقصود بالإنكار في هذه الآية إنما هو تعجبهم ، وأما ( أن ) في قوله : ( أن أنذر الناس ) فمفسرة ؛ لأن الإيحاء فيه معنى القول ، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه أنذر الناس ، على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس .

المسألة الخامسة : أنه تعالى لما بين أنه أوحى إلى رسوله ، بين بعده تفصيل ما أوحى إليه وهو الإنذار والتبشير . أما الإنذار فللكفار والفساق ليرتدعوا بسبب ذلك الإنذار عن فعل ما لا ينبغي ، وأما التبشير فلأهل الطاعة لتقوى رغبتهم فيها . وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية ، وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي .

المسألة السادسة : قوله : ( قدم صدق ) فيه أقوال لأهل اللغة وأقوال للمفسرين . أما أقوال أهل اللغة فقد نقل الواحدي في " البسيط " منها وجوها . قال الليث وأبو الهيثم : القدم : السابقة ، والمعنى : أنهم قد سبق لهم عند الله خير . قال ذو الرمة :


وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة لهم قدم معروفة ومفاخر



وقال أحمد بن يحيى : القدم كل ما قدمت من خير ، وقال ابن الأنباري : القدم كناية عن العمل الذي يتقدم فيه ، ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء .

واعلم أن السبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم ، فسمي المسبب باسم السبب ، كما سميت النعمة يدا ؛ لأنها تعطى باليد .

فإن قيل : فما الفائدة في إضافة القدم إلى الصدق في قوله سبحانه : ( قدم صدق ) ؟ .

قلنا : الفائدة التنبيه على زيادة الفضل وأنه من السوابق العظيمة ، وقال بعضهم : المراد مقام صدق . وأما المفسرون فلهم أقوال : فبعضهم حمل ( قدم صدق ) على الأعمال الصالحة ، وبعضهم حمله على الثواب ، ومنهم من حمله على شفاعة محمد عليه الصلاة والسلام ، واختار ابن الأنباري هذا الثاني وأنشد :


صل لذي العرش واتخذ قدما     ينجيك يوم العثار والزلل



المسألة السابعة : أن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم وأتاهم من عند الله تعالى بما هو اللائق بحكمته وفضله قالوا متعجبين : ( إن هذا لساحر مبين ) أي : إن هذا الذي يدعي أنه رسول هو ساحر . والابتداء بقوله : ( قال الكافرون ) على تقدير : فلما أنذرهم قال الكافرون : إن هذا لساحر مبين ، قال القفال : وإضمار هذا غير قليل في القرآن .

المسألة الثامنة : قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي : ( إن هذا لساحر ) والمراد منه محمد صلى الله عليه وسلم ، والباقون ( لسحر ) والمراد به القرآن .

واعلم أن وصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل على عظم محل القرآن عندهم وكونه معجزا وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة ، فاحتاجوا إلى هذا الكلام .

واعلم أن إقدامهم على وصف القرآن بكونه سحرا ، يحتمل أن يكونوا ذكروه في معرض الذم ، [ ص: 8 ] ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح ، فلهذا السبب اختلف المفسرون فيه . فقال بعضهم : أرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر ، ولكنه باطل في الحقيقة ، ولا حاصل له ، وقال آخرون : أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله ، جار مجرى السحر .

واعلم أن هذا الكلام لما كان في غاية الفساد لم يذكر جوابه ، وإنما قلنا : إنه في غاية الفساد ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان منهم ، ونشأ بينهم ، وما غاب عنهم ، وما خالط أحدا سواهم ، وما كان مكة بلدة العلماء والأذكياء حتى يقال : إنه تعلم السحر أو تعلم العلوم الكثيرة منهم فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن . وإذا كان الأمر كذلك كان حمل القرآن على السحر كلاما في غاية الفساد ، فلهذا السبب ترك جوابه .

التالي السابق


الخدمات العلمية