صفحة جزء
المسألة الرابعة : أما قوله : ( يدبر الأمر ) معناه أنه يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله ، الناظر في أدبار الأمور وعواقبها ، كي لا يدخل في الوجود ما لا ينبغي . والمراد من ( الأمر ) الشأن ، يعني : يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السماوات والأرض .

فإن قيل : ما موقع هذه الجملة ؟

قلنا : قد دل بكونه خالقا للسماوات والأرض في ستة أيام وبكونه مستويا على العرش ، على نهاية العظمة وغاية الجلالة . ثم أتبعها بهذه الجملة ؛ ليدل على أنه لا يحدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي أمر من الأمور ولا حادث من الحوادث إلا بتقديره وتدبيره وقضائه وحكمه ، فيصير ذلك دليلا على نهاية القدرة والحكمة والعلم والإحاطة والتدبير ، وأنه سبحانه مبدع جميع الممكنات ، وإليه تنتهي الحاجات .

وأما قوله تعالى : ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ففيه قولان :

القول الأول وهو المشهور ، أن المراد منه أن تدبيره للأشياء وصنعه لها لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر . ولا يستجرئ أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه ؛ لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب ، فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح .

فإن قيل : كيف يليق ذكر الشفيع بصفة مبدئية الخلق ، وإنما يليق ذكره بأحوال القيامة ؟

والجواب من وجوه :

الوجه الأول ما ذكره الزجاج ، وهو أن الكفار الذين كانوا مخاطبين بهذه الآية كانوا يقولون : إن الأصنام شفعاؤنا عند الله ، فالمراد منه : الرد عليهم في هذا القول وهو كقوله تعالى : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ) [ النبأ : 38 ] .

والوجه الثاني : وهو يمكن أن يقال : إنه تعالى لما بين كونه إلها للعالم مستقلا بالتصرف فيه من غير شريك ولا منازع ، بين أمر المبدأ بقوله : ( يدبر الأمر ) وبين حال المعاد بقوله : ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) .

والوجه الثالث : يمكن أيضا أن يقال : إنه تعالى وضع تدبير الأمور في أول خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من رعاية المصالح ، مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في طلب تحصيل المصالح ، فدل هذا على أن إله العالم ناظر لعباده محسن إليهم مريد للخير والرأفة بهم ، ولا حاجة في كونه سبحانه كذلك إلى حضور شفيع يشفع فيه .

والقول الثاني في تفسير هذا الشفيع ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، فقال : الشفيع ههنا هو الثاني ، وهو مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر ، كما يقال : الزوج والفرد ، فمعنى الآية : خلق السماوات والأرض وحده [ ص: 14 ] ولا حي معه ولا شريك يعينه ، ثم خلق الملائكة والجن والبشر ، وهو المراد من قوله : ( إلا من بعد إذنه ) أي : لم يحدث أحد ولم يدخل في الوجود ، إلا من بعد أن قال له : كن ، حتى كان وحصل .

واعلم أنه تعالى لما بين هذه الدلائل وشرح هذه الأحوال ، ختمها بعد ذلك بقوله : ( ذلكم الله ربكم فاعبدوه ) مبينا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا له ، ومنبها على أنه سبحانه هو المستحق لجميع العبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعم التي ذكرها ووصفها .

ثم قال بعده : ( أفلا تذكرون ) دالا بذلك على وجوب التفكر في تلك الدلائل القاهرة الباهرة ، وذلك يدل على أن التفكر في مخلوقات الله تعالى والاستدلال بها على جلالته وعزته وعظمته ، أعلى المراتب وأكمل الدرجات .

التالي السابق


الخدمات العلمية