صفحة جزء
المسألة الثالثة : قال أبو علي الفارسي : الضياء لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون جمع ضوء كسوط وسياط وحوض وحياض ، أو مصدر ضاء يضوء ضياء ، كقولك : قام قياما ، وصام صياما ، وعلى أي الوجهين حملته ، فالمضاف محذوف ، والمعنى جعل الشمس ذات ضياء ، والقمر ذا نور ، ويجوز أن يكون من غير ذلك ؛ لأنه لما عظم الضوء والنور فيهما جعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم : إنه كرم وجود .

المسألة الرابعة : قال الواحدي : روي عن ابن كثير من طريق قنبل ( ضئاء ) بهمزتين ، وأكثر الناس على تغليطه فيه ؛ لأن ياء ضياء منقلبة من واو مثل ياء قيام وصيام ، فلا وجه للهمزة فيها . ثم قال : وعلى البعد يجوز أن يقال : قدم اللام التي هي الهمزة إلى موضع العين ، وأخر العين التي هي واو إلى موضع اللام ، فلما وقعت طرفا بعد ألف زائدة انقلبت همزة ، كما انقلبت في سقاء وبابه . والله أعلم .

المسألة الخامسة : اعلم أن النور كيفية قابلة للأشد والأضعف ، فإن نور الصباح أضعف من النور الحاصل في أفنية الجدران عند طلوع الشمس ، وهو أضعف من النور الساطع من الشمس على الجدران ، وهو أضعف من الضوء القائم بجرم الشمس ، فكما هذه الكيفية المسماة بالضوء على ما يحس به في جرم الشمس ، وهو في الإمكان وجود مرتبة في الضوء أقوى من الكيفية القائمة بالشمس ، فهو من مواقف العقول . واختلف الناس في أن الشعاع الفائض من الشمس : هل هو جسم أو عرض ؟ والحق أنه عرض ، وهو كيفية مخصوصة ، وإذا ثبت أنه عرض ، فهل حدوثه في هذا العالم بتأثير قرص الشمس ، أو لأجل أن الله تعالى أجرى عادته بخلق هذه الكيفية في الأجرام المقابلة لقرص الشمس على سبيل العادة ؟ فهي مباحث عميقة ، وإنما يليق الاستقصاء فيها بعلوم المعقولات .

وإذا عرفت هذا فنقول : النور اسم لأصل هذه الكيفية ، وأما الضوء ، فهو اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية ، والدليل عليه أنه تعالى سمى الكيفية القائمة بالشمس (ضياء) والكيفية القائمة بالقمر ( نورا ) ولا شك أن الكيفية القائمة بالشمس أقوى وأكمل من الكيفية القائمة بالقمر ، وقال في موضع آخر : ( وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ) [ الفرقان : 61 ] وقال في آية أخرى : ( وجعل الشمس سراجا ) [ نوح : 16 ] وفي آية أخرى ( وجعلنا سراجا وهاجا ) [ النبأ : 13 ] . [ ص: 30 ]

المسألة السادسة : قوله : ( وقدره منازل ) نظيره : قوله تعالى في سورة يس : ( والقمر قدرناه منازل ) [ يس : 39 ] وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون المعنى : وقدر مسيره منازل . والثاني : أن يكون المعنى : وقدره ذا منازل .

المسألة السابعة : الضمير في قوله : ( وقدره ) فيه وجهان ، الأول : أنه لهما ، وإنما وحد الضمير للإيجاز ، وإلا فهو في معنى التثنية اكتفاء بالمعلوم ؛ لأن عدد السنين والحساب إنما يعرف بسير الشمس والقمر ، ونظيره قوله تعالى : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) [ التوبة : 62 ] والثاني : أن يكون هذا الضمير راجعا إلى القمر وحده ؛ لأن بسير القمر تعرف الشهور ، وذلك لأن الشهور المعتبرة في الشريعة مبنية على رؤية الأهلة ، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية ، كما قال تعالى : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ) [ التوبة : 36 ] .

المسألة الثامنة : اعلم أن انتفاع الخلق بضوء الشمس وبنور القمر عظيم ، فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل . وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة ، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم . وبحركة القمر تحصل الشهور ، وباختلاف حاله في زيادة الضوء ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم . وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل ، فالنهار يكون زمانا للتكسب والطلب ، والليل يكون زمانا للراحة ، وقد استقصينا في منافع الشمس والقمر في تفسير الآيات اللائقة بها فيما سلف ، وكل ذلك يدل على كثرة رحمة الله على الخلق وعظم عنايته بهم ، فإنا قد دللنا على أن الأجسام متساوية . ومتى كان كذلك كان اختصاص كل جسم بشكله المعين ووضعه المعين ، وحيزه المعين ، وصفته المعينة ، ليس إلا بتدبير مدبر حكيم رحيم قادر قاهر . وذلك يدل على أن جميع المنافع الحاصلة في هذا العالم بسبب حركات الأفلاك ، ومسير الشمس والقمر والكواكب ، ما حصل إلا بتدبير المدبر المقدر الرحيم الحكيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . ثم إنه تعالى لما قرر هذه الدلائل ختمها بقوله : ( ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) ومعناه أنه تعالى خلقه على وفق الحكمة ومطابقة المصلحة ، ونظيره قوله تعالى في آل عمران : ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ) [ آل عمران : 191 ] وقال في سورة أخرى : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا ) [ ص : 27 ] وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال القاضي : هذه الآية تدل على بطلان الجبر ؛ لأنه تعالى لو كان مريدا لكل ظلم وخالقا لكل قبيح ، ومريدا لإضلال من ضل ، لما صح أن يصف نفسه بأنه : ما خلق ذلك إلا بالحق .

المسألة الثانية : قال حكماء الإسلام : هذا يدل على أنه سبحانه أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواص معينة وقوى مخصوصة ، باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السفلي . إذ لو لم يكن لها آثار وفوائد في هذا العالم ، لكان خلقها عبثا وباطلا وغير مفيد ، وهذه النصوص تنافي ذلك . والله أعلم .

ثم بين تعالى أنه يفصل الآيات ، ومعنى التفصيل هو ذكر هذه الدلائل الباهرة واحدا عقيب الآخر فصلا فصلا مع الشرح والبيان .

وفي قوله : ( نفصل ) قراءتان : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم " يفصل " بالياء ، وقرأ الباقون بالنون .

ثم قال : ( لقوم يعلمون ) وفيه قولان ، الأول : أن المراد منه العقل الذي يعم الكل . والثاني : أن المراد منه من تفكر وعلم فوائد مخلوقاته وآثار إحسانه . وحجة القول الأول : عموم اللفظ ، وحجة القول الثاني : أنه [ ص: 31 ] لا يمتنع أن يخص الله سبحانه وتعالى العلماء بهذا الذكر ؛ لأنهم هم الذين انتفعوا بهذه الدلائل ، فجاء كما في قوله : ( إنما أنت منذر من يخشاها ) [ النازعات : 45 ] مع أنه عليه السلام كان منذرا للكل .

التالي السابق


الخدمات العلمية