( 
إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون   ) 
قوله تعالى : ( 
إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون   ) 
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم ، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر ، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها ، وفي شرح أحوال من يؤمن بها . فأما شرح أحوال الكافرين فهو المذكور في هذه الآية . واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أربعة : 
الصفة الأولى : قوله : ( 
إن الذين لا يرجون لقاءنا   ) وفيه مسائل :   
[ ص: 32 ] 
المسألة الأولى : في تفسير هذا الرجاء قولان : 
القول الأول : وهو قول 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  ومقاتل  والكلبي    : معناه : لا يخافون البعث ، والمعنى : أنهم لا يخافون ذلك لأنهم لا يؤمنون بها . والدليل على 
تفسير الرجاء هاهنا بالخوف قوله تعالى : ( 
إنما أنت منذر من يخشاها   ) [ النازعات : 45 ] وقوله : ( 
وهم من الساعة مشفقون   ) [ الأنبياء : 49 ] وتفسير الرجاء بالخوف جائز كما قال تعالى : ( 
ما لكم لا ترجون لله وقارا   ) [ نوح : 13 ] قال 
الهذلي    : 
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها 
والقول الثاني : تفسير الرجاء بالطمع ، فقوله : ( 
لا يرجون لقاءنا   ) أي : لا يطمعون في ثوابنا ، فيكون هذا الرجاء هو الذي ضده اليأس ، كما قال : ( 
قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار   ) . 
واعلم أن حمل الرجاء على الخوف بعيد ؛ لأن تفسير الضد بالضد غير جائز ، ولا مانع هاهنا من حمل الرجاء على ظاهره البتة ، والدليل عليه أن لقاء الله إما أن يكون المراد منه تجلي جلال الله تعالى للعبد ، وإشراق نور كبريائه في روحه ، وإما أن يكون المراد منه الوصول إلى ثواب الله تعالى وإلى رحمته . فإن كان الأول فهو أعظم الدرجات وأشرف السعادات وأكمل الخيرات ، فالعاقل كيف لا يرجوه ؟ وكيف لا يتمناه ؟ وإن كان الثاني فكذلك ؛ لأن كل أحد يرجو من الله تعالى أن يوصله إلى ثوابه ومقامات رحمته ، وإذا كان كذلك فكل من آمن بالله فهو يرجو ثوابه ، وكل من لم يؤمن بالله ولا بالمعاد فقد أبطل على نفسه هذا الرجاء ، فلا جرم حسن جعل عدم هذا الرجاء كناية عن 
عدم الإيمان بالله واليوم الآخر   . 
المسألة الثانية : اللقاء هو الوصول إلى الشيء ، وهذا في حق الله تعالى محال ، لكونه منزها عن الحد والنهاية ، فوجب أن يجعل مجازا عن الرؤية ، وهذا مجاز ظاهر . فإنه يقال : لقيت فلانا : إذا رأيته ، وحمله على لقاء ثواب الله يقتضي زيادة في الإضمار وهو خلاف الدليل . 
واعلم أنه ثبت بالدلائل اليقينية أن 
سعادة النفس بعد الموت في أن تتجلى فيها معرفة الله تعالى ، ويكمل إشراقها ويقوى لمعانها ، وذلك هو الرؤية ، وهي من أعظم السعادات . فمن كان غافلا عن طلبها معرضا عنها مكتفيا بعد الموت بوجدان اللذات الحسية من الأكل والشرب والوقاع كان من الضالين . 
الصفة الثانية من صفات هؤلاء الكفار قوله تعالى : ( 
ورضوا بالحياة الدنيا   ) . 
واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن طلب اللذات الروحانية ، وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية ، وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى استغراقه في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها ، واستغراقه في طلبها . 
والصفة الثالثة : قوله تعالى : ( 
واطمأنوا بها   ) وفيه مسألتان : 
المسألة الأولى : صفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر الله نوع من الوجل والخوف كما قال تعالى : ( 
الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم   ) [ الأنفال : 2 ] ثم إذا قويت هذه الحالة حصلت 
الطمأنينة في ذكر الله تعالى كما قال تعالى : ( 
وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب   ) [ الرعد : 28 ] وصفة الأشقياء أن تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا ، وفي الاشتغال بطلب لذاتها كما قال في هذه الآية : ( 
واطمأنوا بها   )   
[ ص: 33 ] فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهم الوجل ، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله تعالى . 
المسألة الثانية : مقتضى اللغة أن يقال : واطمأنوا إليها ، إلا أن حروف الجر يحسن إقامة بعضها مقام البعض ، فلهذا السبب قال : ( 
واطمأنوا بها   ) . 
والصفة الرابعة : قوله تعالى : ( 
والذين هم عن آياتنا غافلون   ) والمراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلب لقاء الله تعالى بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء ، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدة بعده عن طلب الاستسعاد بالسعادات الأخروية الروحانية ، وعلى شدة استغراقه في طلب هذه الخيرات الجسمانية والسعادات الدنيوية . 
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بهذه الصفات الأربع قال : ( 
أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون   ) وفيه مسألتان : 
المسألة الأولى : النيران على أقسام : النار التي هي جسم محسوس مضيء محرق صاعدا بالطبع ، والإقرار به واجب ، لأجل أنه ثبت بالدلائل المذكورة أن الإقرار بالجنة والنار حق . 
القسم الثاني : النار الروحانية العقلية ، وتقريره أن من أحب شيئا حبا شديدا ، ثم ضاع عنه ذلك الشيء بحيث لا يمكنه الوصول إليه ، فإنه يحترق قلبه وباطنه ، وكل عاقل يقول : إن فلانا محترق القلب محترق الباطن بسبب فراق ذلك المحبوب . وألم هذه النار أقوى بكثير من ألم النار المحسوسة . 
إذا عرفت هذا فنقول : إن الأرواح التي كانت مستغرقة في حب الجسمانيات وكانت غافلة عن حب عالم الروحانيات ، فإذا مات ذلك الإنسان وقعت الفرقة بين ذلك الروح وبين معشوقاته ومحبوباته ، وهي أحوال هذا العالم ، وليس له معرفة بذلك العالم ولا إلف مع أهل ذلك العالم ، فيكون مثاله مثال من أخرج من مجالسة معشوقه وألقي في بئر ظلمانية لا إلف له بها ، ولا معرفة له بأحوالها ، فهذا الإنسان يكون في غاية الوحشة وتألم الروح ، فكذا هنا ، أما لو كان نافرا عن هذه الجسمانيات عارفا بمقابحها ومعايبها ، وكان شديد الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى ، عظيم الحب لله ، كان مثاله مثال من كان محبوسا في سجن مظلم عفن مملوء من الحشرات المؤذية والآفات المهلكة ، ثم اتفق أن فتح باب السجن وأخرج منه وأحضر في مجلس السلطان الأعظم مع الأحباب والأصدقاء ، كما قال تعالى ( 
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا   ) [ النساء : 69 ] فهذا هو الإشارة إلى 
تعريف النار الروحانية والجنة الروحانية . 
المسألة الثانية : الباء في قوله : ( 
بما كانوا يكسبون   ) مشعر بأن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول هذا العذاب ، ونظيره قوله تعالى : ( 
ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد   ) [ الحج : 10 ] .