صفحة جزء
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم وهي أربعة .

المرتبة الأولى قوله : ( يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في تفسير قوله : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) وجوه :

الأول : أنه تعالى يهديهم إلى الجنة ثوابا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة ، والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه ، أحدها : قوله تعالى : ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ) [ الحديد : 12 ] .

وثانيها : ما روي أنه عليه السلام قال : " إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة ، فيقول له : أنا عملك ، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة ، والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة ، فيقول له : أنا عملك ، فينطلق به حتى يدخله النار " .

وثالثها : قال مجاهد : المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة .

ورابعها : وهو الوجه العقلي أن الإيمان عبارة عن نور اتصل به من عالم القدس ، وذلك النور كالخيط المتصل بين قلب المؤمن وبين ذلك العالم المقدس ، فإن حصل هذا الخط النوراني قدر العبد على أن يقتدي بذلك النور ويرجع إلى [ ص: 35 ] عالم القدس ، فأما إذا لم يوجد هذا الحبل النوراني تاه في ظلمات عالم الضلالات ، نعوذ بالله منه .

والتأويل الثاني : قال ابن الأنباري : إن إيمانهم يهديهم إلى خصائص في المعرفة ومزايا في الألفاظ ولوامع من النور تستنير بها قلوبهم ، وتزول بواسطتها الشكوك والشبهات عنهم ، كقوله تعالى : ( والذين اهتدوا زادهم هدى ) [ محمد : 17 ] وهذه الزوائد والفوائد والمزايا يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت ، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت . قال القفال : وإذا حملنا الآية على هذا الوجه ، كان المعنى : يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ، إلا أنه حذف الواو وجعل قوله : ( تجري ) خبرا مستأنفا منقطعا عما قبله :

والتأويل الثالث : أن الكلام في تفسير هذه الآية يجب أن يكون مسبوقا بمقدمات .

المقدمة الأولى : أن العلم نور والجهل ظلمة . وصريح العقل يشهد بأن الأمر كذلك ، ومما يقرره أنك إذا ألقيت مسألة جليلة شريفة على شخصين ، فاتفق أن فهمها أحدهما وما فهمها الآخر ، فإنك ترى وجه الفاهم متهللا مشرقا مضيئا ، ووجه من لم يفهم عبوسا مظلما منقبضا ، ولهذا السبب جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان بالنور ، وعن الجهل والكفر بالظلمات .

والمقدمة الثانية : أن الروح كاللوح والعلوم والمعارف كالنقوش المنقوشة في ذلك اللوح . ثم هاهنا دقيقة ، وهي أن اللوح الجسماني إذا رسمت فيه نقوش جسمانية فحصول بعض النقوش في ذلك اللوح مانع من حصول سائر النقوش فيه ، فأما لوح الروح فخاصيته على الضد من ذلك ، فإن الروح إذا كانت خالية عن نقوش المعارف والعلوم ، فإنه يصعب عليه تحصيل المعارف والعلوم ، فإذا احتال وحصل شيء منها ، كان حصول ما حصل منها معينا له على سهولة تحصيل الباقي ، وكلما كان الحاصل أكثر كان تحصيل البقية أسهل ، فالنقوش الجسمانية يكون بعضها مانعا من حصول الباقي ، والنقوش الروحانية يكون بعضها معينا على حصول البقية ، وذلك يدل على أن أحوال العالم الروحاني بالضد من أحوال العالم الجسماني .

المقدمة الثالثة : أن الأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة ، والأعمال المذمومة ما تكون بالضد من ذلك .

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول : الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور هذه المعرفة ، ثم إذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة مستقرة في التوجه إلى الآخرة وفي الإعراض عن الدنيا ، وكلما كانت هذه الأحوال أكمل كان استعداد النفس لتحصيل سائر المعارف أشد ، وكلما كان الاستعداد أقوى وأكمل كانت معارج المعارف أكثر وإشراقها ولمعانها أقوى ، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية ، لا جرم لا نهاية لمراتب هذه الهداية المشار إليها بقوله تعالى : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) .

المسألة الثانية : قوله تعالى : ( تجري من تحتهم الأنهار ) المراد منه أنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم ، ونظيره قوله تعالى : ( قد جعل ربك تحتك سريا ) [ مريم : 24 ] وهي ما كانت قاعدة عليها ، ولكن المعنى : بين يديك ، وكذا قوله : ( وهذه الأنهار تجري من تحتي ) [ الزخرف : 51 ] المعنى : بين يدي ، فكذا هاهنا . [ ص: 36 ]

المسألة الثالثة : الإيمان هو المعرفة والهداية المترتبة عليها أيضا من جنس المعارف ، ثم إنه تعالى لم يقل يهديهم ربهم إيمانهم . بل قال : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) وذلك يدل على أن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة ، بل العلم بالمقدمتين سبب لحصول الاستعداد التام لقبول النفس للنتيجة . ثم إذا حصل هذا الاستعداد ، كان التكوين من الحق سبحانه وتعالى ، وهذا معنى قول الحكماء أن الفياض المطلق والجواد الحق ، ليس إلا الله سبحانه وتعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية