صفحة جزء
المرتبة الرابعة من مراتب سعاداتهم قوله سبحانه وتعالى : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا هذه الكلمات العالية المقدسة على أحوال أهل الجنة بسبب الأكل والشرب . فقالوا : إن أهل الجنة إذا اشتهوا شيئا قالوا : سبحانك اللهم وبحمدك ، وإذا أكلوا وفرغوا قالوا : الحمد لله رب العالمين ، وهذا القائل ما ترقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب ، وحقيق لمثل هذا الإنسان أن يعد في زمرة البهائم . وأما المحقون المحققون ، فقد تركوا ذلك ، ولهم فيه أقوال . روى الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون أنفاسكم " وقال الزجاج : عندي في هذا الباب وجوه أخر :

فأحدها : أن أهل الجنة لما استسعدوا بذكر سبحانك اللهم وبحمدك ، وعاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات والمخافات ، علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه ، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء . فقالوا : ( الحمد لله رب العالمين ) وإنما وقع الختم على هذا الكلام لأن اشتغالهم بتسبيح الله تعالى وتمجيده من أعظم نعم الله تعالى عليهم . والاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة ، فلهذا السبب وقع الختم على هذه الكلمة .

وثانيها : أن لكل إنسان بحسب قوته معراجا ، فتارة ينزل عن ذلك المعراج ، وتارة يصعد إليه . ومعراج العارفين الصادقين ، معرفة الله تعالى وتسبيح الله وتحميد الله ، فإذا قالوا : ( سبحانك اللهم ) فهم في عين المعراج ، وإذا نزلوا منه إلى عالم المخلوقات ، كان الحاصل عند ذلك النزول إفاضة الخير على جميع المحتاجين ، وإليه الإشارة بقوله : ( وتحيتهم فيها سلام ) ثم إنه مرة أخرى يصعد إلى معراجه ، وعند الصعود يقول : ( الحمد لله رب العالمين ) فهذه الكلمات العالية إشارة إلى اختلاف أحوال العبد بسبب النزول والعروج .

وثالثها أن نقول : إن قولنا : (الله) اسم لذات الحق سبحانه ، فتارة ينظر العبد إلى صفات الجلال وهي المشار إليها بقوله : ( سبحانك ) ثم يحاول الترقي منها إلى حضرة جلال الذات ترقيا يليق بالطاقة البشرية ، وهي المشار إليها بقوله : ( اللهم ) فإذا عرج عن ذلك المكان ، واخترق في أوائل تلك الأنوار رجع إلى عالم الإكرام ، وهو المشار إليه بقوله : ( الحمد لله رب العالمين ) فهذه كلمات خطرت بالبال ودارت في الخيال ، فإن حقت فالتوفيق من الله تعالى ، وإن لم يكن كذلك فالتكلان على رحمة الله تعالى . [ ص: 39 ]

المسألة الثانية : قال الواحدي : ( أن ) في قوله : ( أن الحمد لله ) هي المخففة من الشديدة ، فلذلك لم تعمل ؛ لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل كقوله :


أن هالك كل من يحفى وينتعل



على معنى أنه هالك . وقال صاحب " النظم " : ( أن ) هاهنا زائدة ، والتقدير : وآخر دعواهم الحمد لله رب العالمين ، وهذا القول ليس بشيء ، وقرأ بعضهم ( أن الحمد ) بالتشديد ، ونصب الحمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية