صفحة جزء
واعلم أنه بقي في هذه الآية سؤالات :

السؤال الأول : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ، مع أن الكون في الفلك متقدم لا محالة على التسيير في البحر ؟

والجواب : لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير ، بل تقدير الكلام كأنه قيل : هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا .

السؤال الثاني : ما جواب ( إذا ) في قوله : ( حتى إذا كنتم في الفلك ) ؟ .

الجواب : هو أن جوابها هو قوله : ( جاءتها ريح عاصف ) ثم قال صاحب " الكشاف " :

وأما قوله : ( دعوا الله ) فهو بدل من (ظنوا) لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك . وقال بعض الأفاضل : لو حمل قوله : ( دعوا الله ) على الاستئناف كان أوضح ، كأنه لما قيل : ( جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم ) قال قائل : فما صنعوا ؟ فقيل : ( دعوا الله ) .

السؤال الثالث : ما الفائدة في صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة ؟

الجواب : فيه وجوه :

الأول : قال صاحب " الكشاف " : المقصود هو المبالغة كأنه تعالى يذكر حالهم لغيرهم لتعجيبهم منها ، ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح .

الثاني : قال أبو علي الجبائي : إن مخاطبته تعالى لعباده ، هي على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام ، فهي بمنزلة الخبر عن الغائب . وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده مرة أخرى إلى الغائب .

الثالث : وهو الذي خطر بالبال في الحال ، أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدل على مزيد التقرب والإكرام . وأما ضده وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة ، يدل على المقت والتبعيد .

أما الأول : فكما في سورة الفاتحة ، فإن قوله : ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ) [ الفاتحة : 2 ، 3 ] كله مقام الغيبة ، ثم انتقل منها إلى قوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) [ الفاتحة : 5 ] وهذا يدل على أن العبد كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور ، وهو يوجب علو الدرجة ، وكمال القرب من خدمة رب العالمين .

وأما الثاني : فكما في هذه الآية ؛ لأن قوله : ( حتى إذا كنتم في الفلك ) خطاب الحضور ، وقوله : ( وجرين بهم ) مقام الغيبة ، فهاهنا انتقل من مقام الحضور إلى مقام الغيبة ، وذلك يدل على المقت والتبعيد [ ص: 57 ] والطرد ، وهو اللائق بحال هؤلاء ؛ لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان الله تعالى إليه بالكفران ، كان اللائق به ما ذكرناه .

السؤال الرابع : كم القيود المعتبرة في الشرط والقيود المعتبرة في الجزاء ؟

الجواب : أما القيود المعتبرة في الشرط فثلاثة ، أولها الكون في الفلك ، وثانيها جري الفلك بالريح الطيبة ، وثالثها فرحهم بها . وأما القيود المعتبرة في الجزاء فثلاثة أيضا ، أولها قوله : ( جاءتها ريح عاصف ) وفيه سؤالان :

السؤال الأول : الضمير في قوله : ( جاءتها ) عائد إلى الفلك وهو ضمير الواحد ، والضمير في قوله : ( وجرين بهم ) عائد إلى الفلك وهو الضمير الجمع ، فما السبب فيه ؟

الجواب عنه من وجهين ، الأول : أنا لا نسلم أن الضمير في قوله : ( جاءتها ) عائد إلى الفلك ، بل نقول : إنه عائد إلى الريح الطيبة المذكورة في قوله : ( وجرين بهم بريح طيبة ) الثاني : لو سلمنا ما ذكرتم إلا أن لفظ " الفلك " يصلح للواحد والجمع ، فحسن الضميران .

السؤال الثاني : ما العاصف ؟

الجواب : قال الفراء والزجاج : يقال : ريح عاصف وعاصفة ، وقد عصفت عصوفا وأعصفت ، فهي معصف ومعصفة . قال الفراء : والألف لغة بني أسد ، ومعنى عصفت الريح : اشتدت ، وأصل العصف السرعة ، يقال : ناقة عاصف وعصوف : سريعة ، وإنما قيل : ( ريح عاصف ) لأنه يراد : ذات عصوف ، كما قيل : لابن وتامر ، أو لأجل أن لفظ الريح مذكر .

أما القيد الثاني : فهو قوله : ( وجاءهم الموج من كل مكان ) والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر .

أما القيد الثالث : فهو قوله : ( وظنوا أنهم أحيط بهم ) والمراد أنهم ظنوا القرب من الهلاك ، وأصله أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد ، فقد دنوا من الهلاك .

السؤال الخامس : ما المراد من الإخلاص في قوله : ( دعوا الله مخلصين له الدين ) .

والجواب : قال ابن عباس : يريد تركوا الشرك ، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئا ، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية . قال الحسن : ( دعوا الله مخلصين ) الإخلاص : الإيمان ، لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى ، فيكون جاريا مجرى الإيمان الاضطراري . وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا جاء الضر والبلاء لم يدعوا إلا الله . وعن أبي عبيدة أن المراد من ذلك الدعاء قولهم : أهيا شراهيا ، تفسيره : يا حي يا قيوم .

السؤال السادس : ما الشيء المشار إليه بقوله " هذه " في قوله : ( لئن أنجيتنا من هذه ) .

والجواب : المراد : لئن أنجيتنا من هذه الريح العاصفة ، وقيل : المراد : لئن أنجيتنا من هذه الأمواج ، أو من هذه الشدائد ، وهذه الألفاظ وإن لم يسبق ذكرها إلا أنه سبق ذكر ما يدل عليها .

السؤال السابع : هل يحتاج في هذه الآية إلى إضمار ؟

الجواب : نعم ، والتقدير : دعوا الله مخلصين له الدين مريدين أن يقولوا : لئن أنجيتنا ، ويمكن أن يقال : [ ص: 58 ] لا حاجة إلى الإضمار ؛ لأن قوله : ( دعوا الله ) يصير مفسرا بقوله : ( لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) فهم في الحقيقة ما قالوا إلا هذا القول .

واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية والمحنة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق . قال ابن عباس : يريد به الفساد والتكذيب والجراءة على الله تعالى ، ومعنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم . قال الزجاج : البغي : الترقي في الفساد ، قال الأصمعي : يقال : بغى الجرح يبغي بغيا : إذا ترقى إلى الفساد ، وبغت المرأة : إذا فجرت ، قال الواحدي : أصل هذا اللفظ من الطلب .

التالي السابق


الخدمات العلمية