صفحة جزء
[ ص: 68 ] وأما قوله : ( وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ) ففيه مباحث :

البحث الأول : إنما أضاف الشركاء إليهم لوجوه :

الأول : أنهم جعلوا نصيبا من أموالهم لتلك الأصنام ، فصيروها شركاء لأنفسهم في تلك الأموال ; فلهذا قال تعالى : ( وقال شركاؤهم ) .

الثاني : أنه يكفي في الإضافة أدنى تعلق ، فلما كان الكفار هم الذين أثبتوا هذه الشركة ، لا جرم حسنت إضافة الشركاء إليهم .

الثالث : أنه تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله : ( مكانكم ) صاروا شركاء في هذا الخطاب .

البحث الثاني : اختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء .

فقال بعضهم : هم الملائكة ، واستشهدوا بقوله تعالى : ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) [ سبأ : 40 ] ، ومنهم من قال : بل هي الأصنام ، والدليل عليه : أن هذا الخطاب مشتمل على التهديد والوعيد ، وذلك لا يليق بالملائكة المقربين ، ثم اختلفوا في أن هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام ، فقال بعضهم : إن الله تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق فيها ، فلا جرم قدرت على ذكر هذا الكلام .

وقال آخرون : إنه تعالى يخلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى يسمع منها ذلك الكلام ، وهو ضعيف ; لأن ظاهر قوله : ( وقال شركاؤهم ) يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هم الشركاء .

فإن قيل : إذا أحياهم الله تعالى فهل يبقيهم أو يفنيهم ؟

قلنا : الكل محتمل ولا اعتراض على الله في شيء من أفعاله ، وأحوال القيامة غير معلومة ، إلا القليل الذي أخبر الله تعالى عنه في القرآن .

والقول الثالث : إن المراد بهؤلاء الشركاء كل من عبد من دون الله تعالى : من صنم ، وشمس ، وقمر ، وإنسي ، وجني ، وملك .

البحث الثالث : هذا الخطاب لا شك أنه تهديد في حق العابدين ، فهل يكون تهديدا في حق المعبودين ؟ أما المعتزلة : فإنهم قطعوا بأن ذلك لا يجوز . قالوا : لأنه لا ذنب للمعبود ، ومن لا ذنب له فإنه يقبح من الله تعالى أن يوجه التخويف والتهديد والوعيد إليه .

وأما أصحابنا فإنهم قالوا : إنه تعالى لا يسأل عما يفعل .

البحث الرابع : أن الشركاء قالوا : ( ما كنتم إيانا تعبدون ) وهم كانوا قد عبدوهم ، فكان هذا كذبا ، وقد ذكرنا في سورة الأنعام اختلاف الناس في أن أهل القيامة هل يكذبون أم لا ، وقد تقدمت هذه المسألة على الاستقصاء ، والذي نذكره ههنا أن منهم من قال : إن المراد من قولهم ( ما كنتم إيانا تعبدون ) هو أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا .

قالوا : والدليل على أن المراد ما ذكرناه وجهان :

الأول : أنهم استشهدوا بالله في ذلك حيث قالوا : ( فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم ) .

والثاني : أنهم قالوا : ( إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) فأثبتوا لهم عبادة ، إلا أنهم زعموا أنهم كانوا غافلين عن تلك العبادة ، وقد صدقوا في ذلك ; لأن من أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور ألبتة .

ومن الناس من أجرى الآية على ظاهرها ، وقالوا : إن الشركاء أخبروا أن الكفار ما عبدوها .

ثم ذكروا فيه وجوها :

الأول : أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة ، فذلك الكذب يكون جاريا مجرى كذب الصبيان ، ومجرى كذب [ ص: 69 ] المجانين والمدهوشين .

والثاني : أنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم ; ولهذا المعنى قالوا : إنهم ما عبدونا .

والثالث : أنهم تخيلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة ، فهم في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات ، ولما كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات ، فهم ما عبدوها ، وإنما عبدوا أمورا تخيلوها ولا وجود لها في الأعيان ، وتلك الصفات التي تخيلوها في أصنامهم أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله بغير إذنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية