[ ص: 79 ] أما قوله : ( 
وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين   ) فالمراد منه : تعليم أنه كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة لو كانوا قادرين عليها ، وتقريره أن الجماعة إذا تعاونت وتعاضدت صارت تلك العقول الكثيرة كالعقل الواحد ، فإذا توجهوا نحو شيء واحد قدر مجموعهم على ما يعجز كل واحد منهم ، فكأنه تعالى يقول : هب أن عقل الواحد والاثنين منكم لا يفي باستخراج معارضة القرآن فاجتمعوا وليعن بعضكم بعضا في هذه المعارضة ، فإذا عرفتم عجزكم حالة الاجتماع وحالة الانفراد عن هذه المعارضة ، فحينئذ يظهر أن تعذر هذه المعارضة إنما كان لأن قدرة البشر غير وافية بها ، فحينئذ يظهر أن ذلك فعل الله لا فعل البشر . 
واعلم أنه قد ظهر بهذا الذي قررناه أن مراتب تحدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن ستة : 
فأولها : أنه تحداهم بكل القرآن كما قال : ( 
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا   ) [ الإسراء : 88 ] . 
وثانيها : أنه - عليه السلام - تحداهم بعشر سور قال تعالى : ( 
فأتوا بعشر سور مثله مفتريات   ) [ هود : 13 ] . 
وثالثها : أنه تحداهم بسورة واحدة كما قال : ( 
فأتوا بسورة من مثله   ) [ البقرة : 23 ) . 
ورابعها : أنه تحداهم بحديث مثله فقال : ( 
فليأتوا بحديث مثله   ) [ الطور : 34 ] . 
وخامسها : أن في تلك المراتب الأربعة كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عدم التلمذ والتعلم ، ثم في سورة يونس طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان ، سواء تعلم العلوم أو لم يتعلمها . 
وسادسها : أن في المراتب المتقدمة تحدى كل واحد من الخلق ، وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم ، وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة ، كما قال : ( 
وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين   ) وههنا آخر المراتب ، فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في 
إثبات أن القرآن معجز   . 
ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا القرآن فقال : ( 
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله   ) واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوها : 
الوجه الأول : أنهم كلما سمعوا شيئا من القصص قالوا : ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها : 
فأولها : بيان 
قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ، ونقل أهله من العز إلى الذل ، ومن الذل إلى العز ، وذلك يدل على قدرة كاملة . 
وثانيها : أنها تدل على العبرة من حيث إن الإنسان يعرف بها أن الدنيا لا تبقى ، فنهاية كل متحرك سكون ، وغاية كل متكون أن لا يكون ، فيرفع قلبه عن 
حب الدنيا وتقوى رغبته في طلب الآخرة ، كما قال : ( 
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب   ) [ يوسف : 111 ] . 
وثالثها : أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ ، دل ذلك على أنه بوحي من الله تعالى ، كما قال في سورة الشعراء بعد أن ذكر القصص ( 
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين   ) [ الشعراء : 192 ] . 
والوجه الثاني : أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئا ساء ظنهم بالقرآن ، وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله : ( 
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات   ) [ آل عمران : 7 ] . 
والوجه الثالث : أنهم رأوا أن القرآن يظهر شيئا فشيئا ، فصار ذلك سببا للطعن الرديء ، فقالوا : ( 
لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة   ) فأجاب الله تعالى عنه بقوله : ( 
كذلك لنثبت به فؤادك   ) [ الفرقان : 32 ] وقد شرحنا هذا الجواب في سورة الفرقان .  
[ ص: 80 ] الوجه الرابع : أن القرآن مملوء من 
إثبات الحشر والنشر ، والقوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ، ولم يتقرر ذلك في قلوبهم ، فظنوا أن 
محمدا    - عليه السلام - إنما يذكر ذلك على سبيل الكذب ، والله تعالى بين صحة القول بالمعاد بالدلائل القاهرة الكثيرة . 
الوجه الخامس : أن القرآن مملوء من الأمر بالصلاة والزكاة وسائر العبادات ، والقوم كانوا يقولون : إله العالمين غني عنا وعن طاعتنا ، وإنه تعالى أجل من أن يأمر بشيء لا فائدة فيه ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : ( 
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا   ) [ المؤمنون : 115 ] وبقوله : ( 
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها   ) [ الإسراء : 7 ] وبالجملة فشبهات الكفار كثيرة ، فهم لما رأوا القرآن مشتملا على أمور ما عرفوا حقيقتها ولم يطلعوا على وجه الحكمة فيها لا جرم كذبوا بالقرآن ، والحاصل أن القوم ما كانوا يعرفون أسرار الإلهيات ، وكانوا يجرون الأمور على الأحوال المألوفة من عالم المحسوسات ، وما كانوا يطلبون حكمها ولا وجوه تأويلاتها ، فلا جرم وقعوا في التكذيب والجهل ، فقوله : ( 
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه   ) إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء ، وقوله : ( 
ولما يأتهم تأويله   ) إشارة إلى عدم جدهم واجتهادهم في طلب تلك الأسرار . 
ثم قال : ( 
فانظر كيف كان عاقبة الظالمين   ) والمراد أنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة ، فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم . 
ومن الناس من قال : المراد منه عذاب الاستئصال ، وهو الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الرسل من ضروب العذاب في الدنيا . قال أهل التحقيق : قوله : ( 
ولما يأتهم تأويله   ) يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة ; لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة ، فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق ، أما إذا عرف وجه التأويل طبق التنزيل على التأويل فيصير ذلك نورا على نور يهدي الله لنوره من يشاء .