صفحة جزء
المقام الثالث : وهو أن بتقدير كون النظر مفيدا للعلم ومقدورا للمكلف ، لكنه يقبح من الله أن يأمر المكلف به ، وبيانه من وجوه :

أحدها : أن النظر في أكثر الأمر يفضي بصاحبه إلى الجهل ، فالمقدم عليه مقدم على أمر يفضي به غالبا إلى الجهل . وما يكون كذلك يكون قبيحا ، فوجب أن يكون الفكر [ ص: 87 ] قبيحا ، والله تعالى لا يأمر بالقبيح .

وثانيها : أن الواحد منا مع ما هو عليه من النقص وضعف الخاطر وما يعتريه من الشبهات الكثيرة المتعارضة ، لا يجوز أن يعتمد على عقله في التمييز بين الحق والباطل . فلما رأينا أرباب المذاهب كل واحد منهم يدعي أن الحق معه ، وأن الباطل مع خصمه ، ثم إذا تركوا التعصب واللجاج وأنصفوا وجدوا الكلمات متعارضة ، وذلك يدل على عجز العقل عن إدراك هذه الحقائق .

وثالثها : أن مدار الدين لو كان على النظر في حقائق الدلائل لوجب أن لا يستقر الإنسان على الإيمان ساعة واحدة ؛ لأن صاحب النظر إذا خطر بباله سؤال على مقدمة من مقدمات دليل الدين ، فقد صار بسبب ذلك السؤال شاكا في تلك المقدمة ، وإذا صار بعض مقدمات الدليل مشكوكا فيه صارت النتيجة ظنية ؛ لأن المظنون لا يفيد اليقين ، فيلزم أن يخرج الإنسان في كل ساعة عن الدين بسبب كل ما يخطر بباله من الأسئلة والمباحث . ورابعها : أنه اشتهر في الألسنة أن من طلب المال بالكيمياء أفلس ، ومن طلب الدين بالكلام تزندق ، وذلك يدل على أنه لا يجوز فتح الباب فيه .

المقام الرابع : أن بتقدير أنه في نفسه غير قبيح ، ولكنا نقيم الدلالة على أن الله ورسوله ما أمرا بذلك ، والذي يدل عليه أن هذه المطالب لا تخلو ، إما أن يكون العلم بدلائلها علما ضروريا غنيا عن التعلم والاستفادة ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل يحتاج في تحصيلها إلى التأمل والتدبر والاستفادة ، والأول باطل ، وإلا لوجب أن يحصل ذلك لكل الناس وهو مكابرة ، ولأنا نجرب أذكى الناس في هذا العلم فلا يمكنه تحصيله في السنين المتطاولة بعد الاستعانة بالأستاذ والتصانيف . وإن كان الثاني وجب أن لا يحصل ذلك العلم للإنسان إلا بعد الممارسة الشديدة والمباحثة الكثيرة ، فلو كان الدين مبنيا عليه لوجب أن لا يحكم الرسول بصحة إسلام الرجل إلا بعد أن يسأله عن هذه المسائل ويجربه في معرفة هذه الدلائل على الاستقصاء . ولو فعل الرسول ذلك لاشتهر ، ولما لم يشتهر - بل المشهور المنقول عنه بالتواتر أنه كان يحكم بإسلام من يعلم بالضرورة أنه لم يخطر بباله شيء من ذلك - علمنا أن ذلك غير معتبر في صحة الدين .

فإن قيل : معرفة أصول الدلائل حاصلة لأكثر العقلاء ، إنما المحتاج إلى التدقيق دفع الأسئلة والجواب عن الشبهات ، وذلك غير معتبر في صحة أصل الدين ، قلنا : هذا ضعيف ؛ لأن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان البتة ، وذلك لأن الدليل إذا كان مبنيا على مقدمات عشرة ، فإن كان الرجل جازما بصحة تلك المقدمات كان عارفا بالدليل معرفة لا يمكن الزيادة عليها ؛ لأن الزيادة على تلك العشرة إن كان معتبرا في تحقق ذلك الدليل بطل قولنا : إن ذلك الدليل مركب من العشرة فقط ، وإن لم يكن معتبرا لم يكن العلم به علما بزيادة شيء في الدليل ، بل يكون علما منفصلا . فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان أيضا ؛ لأن تسعة منها لو كانت يقينية وكانت المقدمة العاشرة ظنية استحال كون المطلوب يقينيا لأن المبني على الظني أولى أن يكون ظنيا ، فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان وبطل ببطلانه ذلك السؤال .

مثاله : إذا رأى الإنسان حدوث مطر ورعد وبرق بعد أن كان الهواء صافيا قال : سبحان الله ، فمن الناس من قال : إن قوله : سبحان الله ، يدل على أنه عرف الله بدليله ، وهذا باطل لأنه إنما يكون عارفا بالله إذا عرف بالدليل أن ذلك الحادث لا بد له من مؤثر ثم يعرف بالدليل أنه يستحيل أن يكون المؤثر فيه سوى الله تعالى . وهذه المقدمة الثانية إنما تستقيم لو عرف بالدليل أنه يستحيل إسناد هذا الحدوث إلى الفلك والنجوم ، والطبيعة والعلة الموجبة . فإنه لو لم يعرف بطلان ذلك بالدليل لكان معتقدا [ ص: 88 ] لهذه المقدمة الثانية من غير دليل فتكون المقدمة تقليدية ويكون المبني عليها تقليدا لا يقينا ، فثبت بهذا فساد ما قلتموه .

التالي السابق


الخدمات العلمية