صفحة جزء
وفي الآية سؤالات :

السؤال الأول : أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " وقال أيضا : " خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل " ، وقال تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ) [الزخرف : 33] فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدة والبلية . ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا ، فكيف الجمع بينهما ؟

الجواب : من وجوه :

الأول : المراد أنه تعالى لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا .

الثاني : أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان ، وإليه الإشارة بقوله : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك ) [طه : 132] .

الثالث : وهو الأقوى عندي أن يقال : إن المشتغل بعبادة الله وبمحبة الله مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، فكل من كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتم ، كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل ، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر ، كان الابتهاج والسرور أتم ؛ لأنه أمن من تغير مطلوبه ، وأمن من زوال محبوبه ، فأما من كان مشتغلا بحب غير الله ، كان أبدا في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله ، فكان عيشه منغصا وقلبه مضطربا ، ولذلك قال الله تعالى في صفة المشتغلين بخدمته : ( فلنحيينه حياة طيبة ) [النحل : 97] .

السؤال الثاني : هل يدل قوله : ( إلى أجل مسمى ) على أن للعبد أجلين ، وأنه يقع في ذلك التقديم والتأخير ؟

والجواب : لا . ومعنى الآية أنه تعالى حكم بأن هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر ، لكنه تعالى عالم بأنه لو اشتغل بالعبادة أم لا فإن أجله ليس إلا في ذلك الوقت المعين ، فثبت أن لكل إنسان أجلا واحدا فقط .

السؤال الثالث : لم سمى منافع الدنيا بالمتاع ؟

الجواب : لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها ، ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى : ( إلى أجل مسمى ) فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية ، ثم لما بين تعالى ذلك قال : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) والمراد منه السعادات الأخروية ، وفيها لطائف وفوائد .

الفائدة الأولى : أن قوله : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) معناه ويؤت كل ذي فضل موجب فضله ومعلوله ، والأمر كذلك ؛ وذلك لأن الإنسان إذا كان في نهاية البعد عن الاشتغال بغير الله ، وكان في غاية الرغبة في تحصيل أسباب معرفة الله تعالى ، فحينئذ يصير قلبه فصا لنقش الملكوت ، ومرآة يتجلى بها قدس اللاهوت ، إلا أن العلائق الجسدانية الظلمانية تكدر تلك الأنوار الروحانية ، فإذا زالت هذه العلائق أشرقت تلك الأنوار وتلألأت تلك الأضواء ، وتوالت موجبات السعادات ، فهذا هو المراد من قوله : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) .

[ ص: 147 ] الفائدة الثانية : أن هذا تنبيه على أن مراتب السعادات في الآخرة مختلفة ؛ وذلك لأنها مقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا ، فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية ، فكذلك مراتب السعادات الأخروية غير متناهية ، فلهذا السبب قال : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) .

الفائدة الثالثة : أنه تعالى قال في منافع الدنيا : ( يمتعكم متاعا حسنا ) ، وقال في سعادات الآخرة : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) ، وذلك يدل على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه ، وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطائه وجوده . وكان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى يقول : لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب ، فأكثر الناس عقولهم ضعيفة ، واشتغال عقولهم بهذه الوسائط الفانية يعميها عن مشاهدة أن الكل منه ، فأما الذين توغلوا في المعارف الإلهية وخاضوا في بحار أنوار الحقيقة ، علموا أن ما سواه ممكن لذاته ، موجود بإيجاده ، فانقطع نظرهم عما سواه ، وعلموا أنه سبحانه وتعالى هو الضار والنافع ، والمعطي والمانع .

ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحوال قال : ( وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) ، والأمر كذلك ؛ لأن من اشتغل بعبادة غير الله صار في الدنيا أعمى ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ، والذي يبين ذلك أن من أقبل على طلب الدنيا ولذاتها وطيباتها قوي حبه لها ومال طبعه إليها وعظمت رغبته فيها ، فإذا مات بقي معه ذلك الحب الشديد والميل التام ، وصار عاجزا عن الوصول إلى محبوبه ، فحينئذ يعظم البلاء ويتكامل الشقاء ، فهذا القدر المعلوم عندنا من عذاب ذلك اليوم ، وأما تفاصيل تلك الأحوال فهي غائبة عنا ما دمنا في هذه الحياة الدنيوية . ثم بين أنه لا بد من الرجوع إلى الله تعالى بقوله : ( إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ) .

واعلم أن قوله : ( إلى الله مرجعكم ) فيه دقيقة ، وهي أن هذا اللفظ يفيد الحصر ، يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره ، فيدل هذا على أنه لا مدبر ولا متصرف هناك إلا هو ، والأمر كذلك أيضا في هذه الحياة الدنيوية ، إلا أن أقواما اشتغلوا بالنظر إلى الوسائط فعجزوا عن الوصول إلى مسبب الأسباب ، فظنوا أنهم في دار الدنيا قادرون على شيء ، وأما في دار الآخرة فهذا الحال الفاسد زائل أيضا ، فلهذا المعنى بين هذا الحصر بقوله : ( إلى الله مرجعكم ) .

ثم قال : ( وهو على كل شيء قدير ) ، وأقول : إن هذا تهديد عظيم من بعض الوجوه ، وبشارة عظيمة من سائر الوجوه . أما إنه تهديد عظيم فلأن قوله تعالى : ( إلى الله مرجعكم ) يدل على أنه ليس مرجعنا إلا إليه ، وقوله : ( وهو على كل شيء قدير ) يدل على أنه قادر على جميع المقدورات ، لا دافع لقضائه ، ولا مانع لمشيئته . والرجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذنوب العظيمة مشكل ، وأما إنه بشارة عظيمة فلأن ذلك يدل على قدرة غالبة وجلالة عظيمة لهذا الحاكم ، وعلى ضعف تام وعجز عظيم لهذا العبد ، والملك القاهر العالي الغالب إذا رأى عاجزا مشرفا على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك ، ومنه المثل المشهور : ملكت فاسجح .

يقول مصنف هذا الكتاب : قد أفنيت عمري في خدمة العلم والمطالعة للكتب ، ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور ، والكريم إذا قدر غفر ، وأسألك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين ومجيب دعوة المضطرين أن تفيض سجال رحمتك على ولدي وفلذة كبدي ، وأن تخلصنا بالفضل والتجاوز والجود والكرم .

التالي السابق


الخدمات العلمية