صفحة جزء
( )

قوله تعالى : ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير )

اعلم أنه تعالى لما ذكر أن عذاب أولئك الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بد وأن يحيق بهم ، ذكر بعده ما يدل على كفرهم ، وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب ، فقال : ( ولئن أذقنا الإنسان ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : لفظ " الإنسان " في هذه الآية فيه قولان :

القول الأول : أن المراد منه مطلق الإنسان ، ويدل عليه وجوه :

الأول : أنه تعالى استثنى منه قوله : ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ) والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فثبت أن الإنسان المذكور في هذه الآية داخل فيه المؤمن والكافر ، وذلك يدل على ما قلناه .

الثاني : أن هذه الآية موافقة على هذا التقرير لقوله تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [العصر : 1- 3] وموافقة أيضا لقوله تعالى : ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ) [المعارج : 19 -21] .

الثالث : أن مزاج الإنسان مجبول على الضعف والعجز . قال ابن جريج في تفسير هذه الآية : يا ابن آدم ، إذا نزلت بك نعمة من الله فأنت كفور ، فإذا نزعت منك فيئوس قنوط . [ ص: 153 ]

والقول الثاني : أن المراد منه الكافر ، ويدل عليه وجوه :

الأول : أن الأصل في المفرد المحلى بالألف واللام أن يحمل على المعهود السابق لولا المانع ، وههنا لا مانع فوجب حمله عليه . والمعهود السابق هو الكافر المذكور في الآية المتقدمة .

الثاني : أن الصفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق إلا بالكافر ؛ لأنه وصفه بكونه يئوسا ، وذلك من صفات الكافر ؛ لقوله تعالى : ( إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون ) [يوسف : 87] ووصفه أيضا بكونه كفورا ، وهو تصريح بالكفر . ووصفه أيضا بأنه عند وجدان الراحة يقول : ذهب السيئات عني ، وذلك جراءة على الله تعالى ، ووصفه أيضا بكونه فرحا ، والله لا يحب الفرحين ، ووصفه أيضا بكونه فخورا ، وذلك ليس من صفات أهل الدين . ثم قال الناظرون لهذا القول : وجب أن يحمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع حتى لا تلزمنا هذه المحذورات .

المسألة الثانية : لفظ الإذاقة والذوق يفيد أقل ما يوجد به الطعم ، فكان المراد أن الإنسان بوجدان أقل القليل من الخيرات العاجلة يقع في التمرد والطغيان ، وبإدراك أقل القليل من المحنة والبلية يقع في اليأس والقنوط والكفران ، فالدنيا في نفسها قليلة ، والحاصل منها للإنسان الواحد قليل ، والإذاقة من ذلك المقدار خير قليل ، ثم إنه في سرعة الزوال يشبه أحلام النائمين وخيالات الموسوسين ، فهذه الإذاقة قليل من قليل ، ومع ذلك فإن الإنسان لا طاقة له بتحملها ولا صبر له على الإتيان بالطريق الحسن معها . وأما النعماء فقال الواحدي : إنها إنعام يظهر أثره على صاحبه ، والضراء مضرة يظهر أثرها على صاحبها ؛ لأنها خرجت مخرج الأحوال الظاهرة ، نحو حمراء وعوراء ، وهذا هو الفرق بين النعمة والنعماء ، والمضرة والضراء .

المسألة الثالثة : اعلم أن أحوال الدنيا غير باقية ، بل هي أبدا في التغير والزوال ، والتحول والانتقال ، إلا أن الضابط فيه أنه إما أن يتحول من النعمة إلى المحنة ، ومن اللذات إلى الآفات ، وإما أن يكون بالعكس من ذلك ، وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب ، ومن المحرمات إلى الطيبات .

أما القسم الأول : فهو المراد من قوله : ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ) وحاصل الكلام أنه تعالى حكم على هذا الإنسان بأنه يئوس كفور . وتقريره أن يقال : إنه حال زوال تلك النعمة يصير يئوسا ؛ وذلك لأن الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي ، ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى ، فلا جرم يستبعد عود تلك النعمة ، فيقع في اليأس . وأما المسلم الذي يعتقد أن تلك النعمة إنما حصلت من الله تعالى وفضله وإحسانه وطوله فإنه لا يحصل له اليأس ، بل يقول : لعله تعالى يردها إلي بعد ذلك أكمل وأحسن وأفضل مما كانت . وأما حال كون تلك النعمة حاصلة فإنه يكون كفورا ؛ لأنه لما اعتقد أن حصولها إنما كان على سبيل الاتفاق أو بسبب أن الإنسان حصلها بسبب جده وجهده ، فحينئذ لا يشتغل بشكر الله تعالى على تلك النعمة .

فالحاصل أن الكافر يكون عند زوال تلك النعمة يئوسا ، وعند حصولها يكون كفورا .

وأما القسم الثاني : وهو أن ينتقل الإنسان من المكروه إلى المحبوب ، ومن المحنة إلى النعمة ، فههنا الكافر يكون فرحا فخورا . أما قوة الفرح فلأن منتهى طمع الكافر هو الفوز بهذه السعادات الدنيوية ، وهو منكر [ ص: 154 ] للسعادات الأخروية الروحانية ، فإذا وجد الدنيا فكأنه قد فاز بغاية السعادات ، فلا جرم يعظم فرحه بها ، وأما كونه فخورا فلأنه لما كان الفوز بسائر المطلوب نهاية السعادة لا جرم يفتخر به .

فحاصل الكلام أنه تعالى بين أن الكافر عند البلاء لا يكون من الصابرين ، وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين .

ثم لما قرر ذلك قال : ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ) ، والمراد منه ضد ما تقدم ؛ فقوله : ( إلا الذين صبروا ) المراد منه أن يكون عند البلاء من الصابرين ، وقوله : ( وعملوا الصالحات ) المراد منه أن يكون عند الراحة والخير من الشاكرين . ثم بين حالهم فقال : ( أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ) ، فجمع لهم بين هذين المطلوبين :

أحدهما : زوال العقاب والخلاص منه ، وهو المراد من قوله : ( لهم مغفرة ) .

والثاني : الفوز بالثواب ، وهو المراد من قوله : ( وأجر كبير ) . ومن وقف على هذا التفصيل الذي ذكرناه علم أن هذا الكتاب الكريم كما أنه معجز بحسب ألفاظه فهو أيضا معجز بحسب معانيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية