صفحة جزء
( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون )

قوله تعالى : ( قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون )

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حكى شبهات منكري نبوة نوح عليه الصلاة والسلام حكى بعده ما يكون جوابا عن تلك الشبهات .

[ ص: 171 ] فالشبهة الأولى : قولهم : ( ما أنت إلا بشر مثلنا ) فقال نوح : حصول المساواة في البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة . ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه ، فقال : ( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) من معرفة ذات الله وصفاته وما يجب وما يمتنع وما يجوز عليه ، ثم إنه تعالى آتاني رحمة من عنده ، والمراد بتلك الرحمة : إما النبوة وإما المعجزة الدالة على النبوة ( فعميت عليكم ) أي : صارت مظنة مشتبهة ملتبسة في عقولكم ، فهل أقدر على أن أجعلكم بحيث تصلون إلى معرفتها شئتم أم أبيتم ؟ والمراد أني لا أقدر على ذلك البتة . وعن قتادة : والله لو استطاع نبي الله لألزمها ولكنه لم يقدر عليه . وحاصل الكلام أنهم لما قالوا : ( وما نرى لكم علينا من فضل ) ذكر نوح عليه السلام أن ذلك بسبب أن الحجة عميت عليكم واشتبهت ، فأما لو تركتم العناد واللجاج ونظرتم في الدليل لظهر المقصود ، وتبين أن الله تعالى آتانا عليكم فضلا عظيما .

المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( فعميت عليكم ) بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله ، بمعنى ألبست وشبهت ، والباقون بفتح العين مخففة الميم ، أي : التبست واشتبهت .

واعلم أن الشيء إذا بقي مجهولا محضا أشبه المعمى ؛ لأن العلم نور البصيرة الباطنة ، والأبصار نور البصر الظاهر ، فحسن جعل كل واحد منها مجازا عن الآخر ، وتحقيقه أن البينة توصف بالأبصار ، قال تعالى : ( فلما جاءتهم آياتنا مبصرة ) [النمل : 13] وكذلك توصف بالعمى ، قال تعالى : ( فعميت عليهم الأنباء ) [القصص : 66] وقال في هذه الآية : ( فعميت عليكم ) .

المسألة الثالثة : ( أنلزمكموها ) فيه ثلاث مضمرات : ضمير المتكلم ، وضمير الغائب ، وضمير المخاطب ، وأجاز الفراء إسكان الميم الأولى ، وروي ذلك عن أبي عمرو ، قال : وذلك أن الحركات توالت ، فسكنت الميم ، وهي أيضا مرفوعة وقبلها كسرة ، والحركة التي بعدها ضمة ثقيلة ، قال الزجاج : جميع النحويين البصريين لا يجيزون إسكان حرف الإعراب إلا في ضرورة الشعر ، وما يروى عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه الفراء ، وروي عن سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها ، وهذا هو الحق ، وإنما يجوز الإسكان في الشعر كقول امرئ القيس :


فاليوم أشرب غير مستحقب



التالي السابق


الخدمات العلمية