ثم قال تعالى : ( 
فلما رأى أيديهم لا تصل إليه   ) أي إلى العجل ، وقال 
الفراء    : إلى الطعام ، وهو ذلك العجل ( 
نكرهم   ) أي أنكرهم . يقال : نكره وأنكره واستنكره . 
واعلم أن الأضياف إنما امتنعوا من الطعام ؛ لأنهم ملائكة ، 
والملائكة لا يأكلون ولا يشربون ، وإنما أتوه في صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها ، وهو كان مشغوفا بالضيافة ، وأما 
إبراهيم    - عليه السلام   - ، فنقول : إما أن يقال : إنه - عليه السلام - ما كان يعلم أنهم ملائكة ، بل كان يعتقد فيهم أنهم من البشر ، أو يقال : إنه كان عالما بأنهم من الملائكة ، أما على الاحتمال الأول فسبب خوفه أمران : 
أحدهما : أنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس ، فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به مكروها ، وثانيهما : أن 
من لا يعرف إذا حضر وقدم إليه طعام ، فإن أكل حصل الأمن ، وإن لم يأكل حصل الخوف ، وأما الاحتمال الثاني : وهو أنه عرف أنهم ملائكة الله تعالى ، فسبب خوفه على هذا التقدير أيضا أمران : 
أحدها : أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه . 
والثاني : أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه . 
فإن قيل : فأي هذين الاحتمالين أقرب وأظهر ؟ 
قلنا : أما الذي يقول : إنه ما عرف أنهم ملائكة الله تعالى فله أن يحتج بأمور : 
أحدها : أنه تسارع إلى إحضار الطعام ، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك . 
وثانيها : أنه لما رآهم ممتنعين من الأكل خافهم ، ولو عرف كونهم من الملائكة لما استدل بترك الأكل على حصول الشر . 
وثالثها : أنه رآهم في أول الأمر في صورة البشر ، وذلك لا يدل على كونهم من الملائكة ، وأما الذي يقول : إنه عرف ذلك احتج بقوله : ( 
لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط   ) وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف بأي سبب أرسلوا ، ثم بين تعالى أن الملائكة أزالوا ذلك الخوف عنه ، فقالوا : ( 
لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط   ) ومعناه : أرسلنا بالعذاب إلى قوم 
لوط  ؛ لأنه أضمر لقيام الدليل عليه في سورة أخرى ، وهو قوله : ( 
إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين   ) [الحجر : 58 ] ( 
لنرسل عليهم حجارة   ) [الذاريات : 33 ] . 
ثم قال تعالى : ( 
وامرأته قائمة   ) يعني 
سارة بنت آزر بن باحورا ، بنت عم إبراهيم     - عليه السلام - ، وقوله : ( 
قائمة   ) قيل : كانت قائمة من وراء الستر تستمع إلى الرسل ؛ لأنها ربما خافت أيضا ، وقيل : كانت قائمة تخدم الأضياف 
وإبراهيم    - عليه السلام - جالس معهم ، ويؤكد هذا التأويل قراءة 
ابن مسعود    "وامرأته قائمة وهو قاعد" . 
ثم قال تعالى : ( 
فضحكت فبشرناها بإسحاق   ) واختلفوا في 
الضحك على قولين : منهم من حمله على نفس الضحك ، ومنهم من حمل هذا اللفظ على معنى آخر سوى الضحك . أما الذين حملوه على نفس الضحك فاختلفوا في أنها لم ضحكت ، وذكروا وجوها : 
الأول : قال القاضي : إن ذلك السبب لا بد وأن يكون سببا جرى ذكره في هذه الآية ، وما ذاك إلا أنها فرحت بزوال ذلك الخوف عن 
إبراهيم    - عليه السلام - ، حيث قالت الملائكة : ( 
لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط   ) وعظم سرورها بسبب سروره بزوال خوفه ، وفي مثل هذه   
[ ص: 22 ] الحالة قد يضحك الإنسان ، وبالجملة فقد كان ضحكها بسبب قول الملائكة 
لإبراهيم    - عليه السلام - ( 
لا تخف   ) فكان كالبشارة ، فقيل لها : نجعل هذه البشارة بشارتين ، فكما حصلت البشارة بزوال الخوف ، فقد حصلت البشارة أيضا بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أول العمر إلى هذا الوقت ، وهذا تأويل في غاية الحسن . 
الثاني : يحتمل أنها كانت عظيمة الإنكار على 
قوم لوط  ؛ لما كانوا عليه من الكفر والعمل الخبيث ، فلما أظهروا أنهم جاءوا لإهلاكهم ، لحقها السرور فضحكت . 
الثالث : قال 
السدي    : قال 
إبراهيم    - عليه السلام - لهم : ( ألا تأكلون ؟ قالوا : لا نأكل طعاما إلا بالثمن ، فقال : ثمنه أن تذكروا اسم الله تعالى على أوله وتحمدوه على آخره ، فقال 
جبريل  لميكائيل  عليهما السلام : "حق لمثل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلا" فضحكت امرأته فرحا منها بهذا الكلام . 
الرابع : أن 
سارة  قالت 
لإبراهيم    - عليه السلام - : أرسل إلى ابن أخيك وضمه إلى نفسك ؛ فإن الله تعالى لا يترك قومه حتى يعذبهم ، فعند تمام هذا الكلام دخل الملائكة على 
إبراهيم    - عليه السلام - ، فلما أخبروه بأنهم إنما جاءوا لإهلاك 
قوم لوط  ، صار قولهم موافقا لقولها ، فضحكت لشدة سرورها بحصول الموافقة بين كلامها وبين كلام الملائكة . 
الخامس : أن الملائكة لما أخبروا 
إبراهيم    - عليه السلام - أنهم من الملائكة لا من البشر ، وأنهم إنما جاءوا لإهلاك 
قوم لوط  ، طلب 
إبراهيم    - عليه السلام - منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة ، فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي ، فطفر ذلك العجل المشوي من الموضع الذي كان موضوعا فيه إلى مرعاه ، وكانت امرأة 
إبراهيم    - عليه السلام - قائمة ، فضحكت لما رأت ذلك العجل المشوي قد طفر من موضعه . 
السادس : أنها ضحكت تعجبا من أن قوما أتاهم العذاب وهم في غفلة . 
السابع : لا يبعد أن يقال : إنهم بشروها بحصول مطلق الولد فضحكت ، إما على سبيل التعجب ، فإنه يقال : إنها كانت في ذلك الوقت بنت بضع وتسعين سنة ، 
وإبراهيم    - عليه السلام - ابن مائة سنة ، وإما على سبيل السرور ، ثم لما ضحكت بشرها الله تعالى بأن ذلك الولد هو 
إسحاق  ، ومن وراء 
إسحاق  يعقوب    . 
الثامن : أنها ضحكت بسبب أنها تعجبت من خوف 
إبراهيم    - عليه السلام - من ثلاث أنفس حال ما كان معه حشمه وخدمه . 
التاسع : أن هذا على التقديم والتأخير ، والتقدير : وامرأته قائمة ، فبشرناها 
بإسحاق  ، فضحكت سرورا بسبب تلك البشارة ، فقدم الضحك ، ومعناه التأخير . 
العاشر : هو أن يكون معنى ( 
فضحكت   ) : حاضت ، وهو منقول عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد  وعكرمة  ، قالا : ( 
فضحكت   ) أي حاضت عند فرحها بالسلامة من الخوف ، فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد ، وأنكر 
الفراء  وأبو عبيدة  أن يكون ضحكت بمعنى حاضت ، قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12590أبو بكر الأنباري    : هذه اللغة إن لم يعرفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم ، حكى 
الليث  في هذه الآية ( 
فضحكت   ) طمثت ، وحكى 
الأزهري  عن بعضهم أن أصله من ضحاك الطلعة ، يقال : ضحكت الطلعة - إذا انشقت . 
واعلم أن هذه الوجوه كلها زوائد . وإنما الوجه الصحيح هو الأول . 
ثم قال تعالى : ( 
ومن وراء إسحاق يعقوب   ) وفيه مسألتان : 
المسألة الأولى : 
قرأ ابن عامر  ، وحمزة  ، وحفص  ، عن عاصم    : "يعقوب" بالنصب ، والباقون بالرفع ، أما وجه النصب ، فهو أن يكون التقدير : بشرناها 
بإسحاق  ومن وراء 
إسحاق  وهبنا لها 
يعقوب  ، وأما وجه الرفع فهو أن يكون التقدير : ومن وراء 
إسحاق  يعقوب  مولود ، أو موجود . 
المسألة الثانية : في لفظ 
وراء قولان : 
الأول - وهو قول الأكثرين - : أن معناه بعد ، أي بعد 
إسحاق  يعقوب   [ ص: 23 ] وهذا هو الوجه الظاهر . 
والثاني : أن الوراء ولد الولد ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي  أنه قيل له : هذا ابنك ، فقال : نعم من الوراء - وكان ولد ولده - وهذا الوجه عندي شديد التعسف ، واللفظ كأنه ينبو عنه .