صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : لفظ (الذي) وهو موصول مع صلته ، إما أن يكون في محل النصب وصفا للذي خلقكم ، أو على المدح والتعظيم ، وإما أن يكون رفعا على الابتداء ، وفيه ما في النصب من المدح .

المسألة الثانية : (الذي) كلمة موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة ، كقولك : ذهب الرجل الذي أبوه منطلق ، فأبوه منطلق قضية معلومة ، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الذي ، وهو تحقيق قولهم : إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل ، إذا ثبت هذا فقوله : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشا والسماء بناء ، وذلك تحقيق قوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) [ لقمان : 25 ] .

المسألة الثالثة : أن الله تعالى ذكر ههنا خمسة أنواع من الدلائل ، اثنين من الأنفس وثلاثة من الآفاق ، فبدأ أولا بقوله : ( خلقكم ) وثانيا : بالآباء والأمهات ، وهو قوله : ( والذين من قبلكم ) وثالثا : بكون الأرض فراشا ، ورابعا : بكون السماء بناء ، وخامسا : بالأمور الحاصلة من مجموع السماء والأرض ، وهو قوله : ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) . ولهذا الترتيب أسباب ، الأول : أن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه ، وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره ، وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم ، فكلما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة ، وكان أولى بالذكر . فلهذا السبب قدم ذكر نفس الإنسان ، ثم ثناه بآبائه وأمهاته ، ثم ثلث بالأرض ؛ لأن الأرض أقرب إلى الإنسان من السماء والإنسان أعرف بحال الأرض منه بأحوال السماء ، وإنما قدم ذكر السماء على نزول الماء من السماء وخروج الثمرات بسببه ؛ لأن ذلك كالأمر المتولد من السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر ، فلهذا السبب أخر الله ذكره عن ذكر الأرض والسماء .

الثاني : هو أن خلق المكلفين أحياء قادرين أصل لجميع النعم ، وأما خلق الأرض والسماء والماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة ، فلا جرم قدم ذكر الأصول على الفروع .

[ ص: 94 ] الثالث : أن كل ما في الأرض والسماء من دلائل الصانع فهو حاصل في الإنسان ، وقد حصل في الإنسان من الدلائل ما لم يحصل فيهما ؛ لأن الإنسان حصل فيه الحياة والقدرة والشهوة والعقل ، وكل ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى . فلما كانت وجوه الدلائل له ههنا أتم كان أولى بالتقديم . واعلم أنا كما ذكرنا السبب في الترتيب فلنذكر ما في كل واحد من هذه الثلاثة من المنافع .

التالي السابق


الخدمات العلمية