صفحة جزء
( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين )

قوله تعالى : ( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ) في الآية مسائل :

[ ص: 89 ] المسألة الأولى : وجه النظم أن يقال : بين تعالى أن إخوته لما أساءوا إليه ، ثم إنه صبر على تلك الشدائد والمحن مكنه الله تعالى في الأرض ، ثم لما بلغ أشده آتاه الله الحكم والعلم ، والمقصود بيان أن جميع ما فاز به من النعم كان كالجزاء على صبره على تلك المحن ، ومن الناس من قال : إن النبوة جزاء على الأعمال الحسنة ، ومنهم من قال : إن من اجتهد وصبر على بلاء الله تعالى وشكر نعماء الله تعالى وجد منصب الرسالة . واحتجوا على صحة قولهم : بأنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة .

ثم قال تعالى : ( وكذلك نجزي المحسنين ) وهذا يدل على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف ، فإن الله يعطيه تلك المناصب ، وهذا بعيد لاتفاق العلماء على أن النبوة غير مكتسبة .

واعلم أن من قال : إن يوسف ما كان رسولا ولا نبيا البتة ، وإنما كان عبدا أطاع الله تعالى فأحسن الله إليه ، وهذا القول باطل بالإجماع . وقال الحسن : إنه كان نبيا من الوقت الذي قال الله تعالى في حقه : ( وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا ) [ يوسف : 15 ] وما كان رسولا ، ثم إنه صار رسولا من هذا الوقت أعني قوله : ( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما ) ومنهم من قال : إنه كان رسولا من الوقت الذي ألقي في غيابة الجب .

المسألة الثانية : قال أبو عبيدة : تقول العرب : بلغ فلان أشده إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان ، وهذا اللفظ يستعمل في الواحد والجمع ، يقال بلغ أشده وبلغوا أشدهم ، وقد ذكرنا تفسير الأشد في سورة الأنعام عند قوله : ( حتى يبلغ أشده ) ، وأما التفسير فروى ابن جرير عن مجاهد عن ابن عباس ولما بلغ أشده قال : ثلاثا وثلاثين سنة . وأقول : هذه الرواية شديدة الانطباق على القوانين الطبية وذلك لأن الأطباء قالوا إن الإنسان يحدث في أول الأمر ويتزايد كل يوم شيئا فشيئا إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال ، ثم يأخذ في التراجع والانتقاص إلى أن لا يبقى منه شيء ، فكانت حالته شبيهة بحال القمر ، فإنه يظهر هلالا ضعيفا ثم لا يزال يزداد إلى أن يصير بدرا تاما ، ثم يتراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق .

إذا عرفت هذا فنقول : مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوما وكسر فإذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام ، كان كل قسم منها سبعة أيام . فلا جرم رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع ، فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتم له سبع سنين ، ثم إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوة ، ثم لا يزال في الترقي إلى أن يتم له أربع عشرة سنة . فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثالث ، وهناك يكمل العقل ويبلغ إلى حد التكليف وتتحرك فيه الشهوة ، ثم لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتم السنة الحادية والعشرين ، وهناك يتم الأسبوع الثالث ويدخل في السنة الثانية والعشرين ، وهذا الأسبوع آخر أسابيع النشوء والنماء ، فإذا تمت السنة الثامنة والعشرون فقد تمت مدة النشوء والنماء ، وينتقل الإنسان منه إلى زمان الوقوف وهو الزمان الذي يبلغ الإنسان فيه أشده ، وبتمام هذا الأسبوع الخامس يحصل للإنسان خمسة وثلاثون سنة ، ثم إن هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان ; فهذا الأسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدة والكمال يبتدئ من السنة التاسعة والعشرين إلى الثالثة والثلاثين ، وقد يمتد إلى الخامسة والثلاثين ، فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب ، والله أعلم بحقائق الأشياء .

المسألة الثالثة : في تفسير الحكم والعلم ، وفيه أقوال :

[ ص: 90 ] القول الأول : أن الحكم والحكمة أصلهما حبس النفس عن هواها ، ومنعها مما يشينها ، فالمراد من الحكم الحكمة العملية ، والمراد من العلم الحكمة النظرية . وإنما قدم الحكمة العملية هنا على النظرية ، لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية ، ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية . وأما أصحاب الأفكار العقلية والأنظار الروحانية فإنهم يصلون إلى الحكمة النظرية أولا ، ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية ، وطريق يوسف عليه السلام هو الأول ، لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح الله عليه أبواب المكاشفات ، فلهذا السبب قال : ( آتيناه حكما وعلما ) .

القول الثاني : الحكم هو النبوة ، لأن النبي يكون حاكما على الخلق ، والعلم علم الدين .

والقول الثالث : يحتمل أن يكون المراد من الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على نفسه الأمارة بالسوء مستعلية عليها قاهرة لها ، ومتى صارت القوة الشهوانية والغضبية مقهورة ضعيفة فاضت الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس . وتحقيق القول في هذا الباب أن جوهر النفس الناطقة خلقت قابلة للمعارف الكلية والأنوار العقلية ، إلا أنه قد ثبت عندنا بحسب البراهين العقلية وبحسب المكاشفات العلوية أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة بالماهيات فمنها ذكية وبليدة ، ومنها حرة ونذلة ، ومنها شريفة وخسيسة ، ومنها عظيمة الميل إلى عالم الروحانيات وعظيمة الرغبة في الجسمانيات ، فهذه الأقسام كثيرة ، وكل واحد من هذه المقامات قابل للأشد والأضعف والأكمل والأنقص ، فإذا اتفق أن كان جوهر النفس الناطقة جوهرا مشرقا شريفا شديد الاستعداد لقبول الأضواء العقلية واللوائح الإلهية ، فهذه النفس في حال الصغر لا يظهر منها هذه الأحوال ، لأن النفس الناطقة إنما تقوى على أفعالها بواسطة استعمال الآلات الجسدانية ، وهذه الآلات في حال الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها ، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت ، فصارت تلك الآلات البدنية صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية ، وإذا كانت النفس في أصل جوهرها شريفة فعند كمال الآلات البدنية تكمل معارفها وتقوى أنوارها ويعظم لمعان الأضواء فيها ، فقوله : ( ولما بلغ أشده ) إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية ، وقوله : ( آتيناه حكما وعلما ) إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية