( 
قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم   )  
[ ص: 105 ] قوله تعالى : ( 
قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم   ) 
واعلم أن المرأة لما قالت : ( 
ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين   ) وسائر النسوة سمعن هذا التهديد ، فالظاهر أنهن اجتمعن على 
يوسف  عليه السلام وقلن لا مصلحة لك في مخالفة أمرها وإلا وقعت في السجن وفي الصغار . فعند ذلك اجتمع في حق
يوسف  عليه السلام أنواع من الوسوسة : 
أحدها : أن 
زليخا  كانت في غاية الحسن . 
والثاني : أنها كانت ذات مال وثروة ، وكانت على عزم أن تبذل الكل 
ليوسف  بتقدير أن يساعدها على مطلوبها . 
والثالث : أن النسوة اجتمعن عليه ، وكل واحدة منهن كانت ترغبه وتخوفه بطريق آخر ، 
ومكر النساء في هذا الباب شديد . 
والرابع : أنه عليه السلام كان خائفا من شرها وإقدامها على قتله وإهلاكه . فاجتمع في حق 
يوسف  جميع جهات الترغيب على موافقتها وجميع جهات التخويف على مخالفتها ، فخاف عليه السلام أن تؤثر هذه الأسباب القوية الكثيرة فيه . 
واعلم أن القوة البشرية والطاقة الإنسانية لا تفي بحصول هذه العصمة القوية ، فعند هذا التجأ إلى الله تعالى وقال : ( 
رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه   ) وقرئ " السجن " بالفتح على المصدر ، وفيه سؤالان : 
السؤال الأول : السجن في غاية المكروهية ، وما دعونه إليه في غاية المطلوبية ، فكيف قال : المشقة أحب إلي من اللذة ؟ . 
والجواب : أن تلك اللذة كانت تستعقب آلاما عظيمة ، وهي الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة ، وذلك المكروه وهو اختيار السجن كان يستعقب سعادات عظيمة ، وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة ، فلهذا السبب قال : ( 
السجن أحب إلي مما يدعونني إليه   ) . 
السؤال الثاني : أن حبسهم له معصية كما أن الزنا معصية ، فكيف يجوز أن يحب السجن مع أنه معصية ؟ . 
والجواب : تقدير الكلام أنه إذا كان لا بد من التزام أحد الأمرين أعني الزنا أو السجن ، فهذا أولى ، لأنه متى 
وجب التزام أحد شيئين كل واحد منهما شر فأخفهما أولاهما بالتحمل . 
ثم قال : ( 
وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين   ) أصب إليهن أمل إليهن ، يقال : صبا إلى اللهو يصبو صبوا إذا مال ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن 
الإنسان لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى عنها ، قالوا : لأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إن لم يصرفه عن ذلك القبيح وقع فيه ، وتقريره : أن القدرة والداعي إلى الفعل والترك إن استويا امتنع الفعل ، لأن الفعل رجحان لأحد الطرفين ومرجوحية للطرف الآخر ، وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين وهو محال ، وإن حصل الرجحان في أحد الطرفين فذلك الرجحان ليس من العبد ، وإلا لذهبت المراتب إلى غير النهاية ، بل هو من الله تعالى ، فالصرف عبارة عن جعله مرجوحا لأنه متى صار مرجوحا صار ممتنع الوقوع لأن الوقوع رجحان ، فلو وقع حال المرجوحية لحصل الرجحان حال حصول المرجوحية ، وهو يقتضي حصول الجمع بين النقيضين وهو محال ،   
[ ص: 106 ] فثبت بهذا أن انصراف العبد عن القبيح ليس إلا من الله تعالى . 
ويمكن تقرير هذا الكلام من وجه آخر ، وهو أنه كان قد حصل في حق 
يوسف  عليه السلام جميع الأسباب المرغبة في تلك المعصية ، وهو الانتفاع بالمال والجاه والتمتع بالمنكوح والمطعوم ، وحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفرة ، ومتى كان الأمر كذلك ، فقد قويت الدواعي في الفعل وضعفت الدواعي في الترك ، فطلب من الله سبحانه وتعالى أن يحدث في قلبه أنواعا من الدواعي المعارضة النافية لدواعي المعصية ، إذ لو لم يحصل هذا المعارض لحصل المرجح للوقوع في المعصية خاليا عما يعارضه ، وذلك يوجب وقوع الفعل وهو المراد بقوله : ( 
أصب إليهن وأكن من الجاهلين   ) .