صفحة جزء
( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )

[ ص: 112 ] قوله تعالى : ( ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قوله : ( ياصاحبي السجن ) يريد صاحبي في السجن ، ويحتمل أيضا أنه لما حصلت مرافقتهما في السجن مدة قليلة أضيفا إليه ، وإذا كانت المرافقة القليلة كافية في كونه صاحبا فمن عرف الله وأحبه طول عمره أولى بأن يبقى عليه اسم المؤمن العارف المحب .

المسألة الثانية : اعلم أنه عليه السلام لما ادعى النبوة في الآية الأولى وكان إثبات النبوة مبنيا على إثبات الإلهيات لا جرم شرع في هذه الآية في تقرير الإلهيات ، ولما كان أكثر الخلق مقرين بوجود الإله العالم القادر وإنما الشأن في أنهم يتخذون أصناما على صورة الأرواح الفلكية ويعبدونها ويتوقعون حصول النفع والضر منها لا جرم كان سعي أكثر الأنبياء في المنع من عبادة الأوثان . فكان الأمر على هذا القانون في زمان يوسف عليه السلام ، فلهذا السبب شرع ههنا في ذكر ما يدل على فساد القول بعبادة الأصنام وذكر أنواعا من الدلائل والحجج :

الحجة الأولى : قوله : ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) وتقرير هذه الحجة أن نقول : إن الله تعالى بين أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم وهو قوله : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [ الأنبياء : 22 ] فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل ، وكون الإله واحدا يقتضي حصول النظام وحسن الترتيب ، فلما قرر هذا المعنى في سائر الآيات ، قال ههنا : ( متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار .

والحجة الثانية : أن هذه الأصنام معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة ، فإن الإنسان إذا أراد كسرها وإبطالها قدر عليها فهي مقهورة لا تأثير لها ، ولا يتوقع حصول منفعة ولا مضرة من جهتها ، وإله العالم فعال قهار قادر يقدر على إيصال الخيرات ودفع الشرور والآفات ، فكان المراد أن عبادة الآلهة المقهورة الذليلة خير أم عبادة الله الواحد القهار ، فقوله : ( أأرباب ) إشارة إلى الكثرة فجعل في مقابلته كونه تعالى واحدا ، وقوله : ( متفرقون ) إشارة إلى كونها مختلفة في الكبر والصغر ، واللون والشكل ، وكل ذلك إنما حصل بسبب أن الناحت والصانع يجعله على تلك الصورة ، فقوله : ( متفرقون ) إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة وجعل في مقابلته كونه تعالى قهارا ، فبهذا الطريق الذي شرحناه اشتملت هذه الآية على هذين النوعين الظاهرين .

والحجة الثالثة : أن كونه تعالى واحدا يوجب عبادته ، لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا ، فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك ، وفيه إشارة إلى ما يدل على فساد القول بعبادة الأوثان ، وذلك لأن بتقدير أن تحصل المساعدة على كونها نافعة ضارة إلا أنها كثيرة ، فحينئذ لا نعلم أن نفعنا ودفع الضرر عنا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الآخر أو حصل بمشاركتهما ومعاونتهما ، وحينئذ يقع الشك في أن المستحق للعبادة هو هذا أم ذاك ، أما إذا كان المعبود واحدا ارتفع هذا الشك وحصل اليقين في [ ص: 113 ] أنه لا يستحق العبادة إلا هو ولا معبود للمخلوقات والكائنات إلا هو ، فهذا أيضا وجه لطيف مستنبط من هذه الآية .

الحجة الرابعة : أن بتقدير أن يساعد على أن هذه الأصنام تنفع وتضر على ما يقوله أصحاب الطلسمات ، إلا أنه لا نزاع في أنها تنفع في أوقات مخصوصة وبحسب آثار مخصوصة ، والإله تعالى قادر على جميع المقدورات فهو قهار على الإطلاق نافذ المشيئة والقدرة في كل الممكنات على الإطلاق فكان الاشتغال بعبادته أولى .

الحجة الخامسة ، وهي شريفة عالية : وذلك لأن شرط القهار أن لا يقهره أحد سواه ، وأن يكون هو قهارا لكل ما سواه ، وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته ، إذ لو كان ممكنا لكان مقهورا لا قاهرا ويجب أن يكون واحدا ، إذ لو حصل في الوجود واجبان لما كان قاهرا لكل ما سواه ، فالإله لا يكون قهارا إلا إذا كان واجبا لذاته وكان واحدا ، وإذا كان المعبود يجب أن يكون كذلك فهذا يقتضي أن يكون الإله شيئا غير الفلك وغير الكواكب وغير النور والظلمة وغير العقل والنفس ، فأما من تمسك بالكواكب فهي أرباب متفرقون وهي ليست موصوفة بأنها قهارة ، وكذا القول في الطبائع والأرواح والعقول والنفوس ، فهذا الحرف الواحد كاف في إثبات هذا التوحيد المطلق وأنه مقام عال ، فهذا مجموع الدلائل المستنبطة من هذه الآية ، بقي فيها سؤالان :

السؤال الأول : لم سماها أربابا وليست كذلك ؟ .

والجواب : لاعتقادهم فيها أنها كذلك ، وأيضا الكلام خرج على سبيل الفرض والتقدير ، والمعنى أنها إن كانت أربابا فهي خير أم الله الواحد القهار .

السؤال الثاني : هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال إنها خير أم الله الواحد القهار ؟

الجواب : أنه خرج على سبيل الفرض ، والمعنى : لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار .

ثم قال : ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) وفيه سؤال : وهو أنه تعالى قال فيما قبل هذه الآية : ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) وذلك يدل على وجود هذه المسميات . ثم قال عقيب تلك الآية : ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها ) وهذا يدل على أن المسمى غير حاصل وبينهما تناقض .

الجواب : أن الذات موجودة حاصلة إلا أن المسمى بالإله غير حاصل . وبيانه من وجهين :

الأول : أن ذوات الأصنام وإن كانت موجودة إلا أنها غير موصوفة بصفات الإلهية ، وإذا كان كذلك كان الشيء الذي هو مسمى بالإله في الحقيقة غير موجود ولا حاصل .

الثاني : يروى أن عبدة الأوثان مشبهة فاعتقدوا أن الإله هو النور الأعظم وأن الملائكة أنوار صغيرة ووضعوا على صورة تلك الأنوار هذه الأوثان ، ومعبودهم في الحقيقة هو تلك الأنوار السماوية ، وهذا قول المشبهة فإنهم تصوروا جسما كبيرا مستقرا على العرش ويعبدونه ، وهذا المتخيل غير موجود البتة فصح أنهم لا يعبدون إلا مجرد الأسماء .

[ ص: 114 ] واعلم أن جماعة ممن يعبدون الأصنام قالوا : نحن لا نقول : إن هذه الأصنام آلهة للعالم بمعنى أنها هي التي خلقت العالم إلا أنا نطلق عليها اسم الإله ونعبدها ونعظمها لاعتقادنا أن الله أمرنا بذلك ، فأجاب الله تعالى عنه ، فقال : أما تسميتها بالآلهة فما أمر الله تعالى بذلك وما أنزل في حصول هذه التسمية حجة ولا برهانا ولا دليلا ولا سلطانا ، وليس لغير الله حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام ، بل الحكم والأمر والتكليف ليس إلا له ، ثم إنه أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ، وذلك لأن العبادة نهاية التعظيم والإجلال ، فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الإنعام وهو الإله تعالى لأنه منه الخلق والإحياء والعقل والرزق والهداية ، ونعم الله كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية .

ثم إنه تعالى لما بين هذه الأشياء ، قال ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) وتفسيره أن أكثر الخلق يسندون حدوث الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية لأجل أنه تقرر في العقول أن الحادث لا بد له من سبب . فإذا رأوا أن تغير أحوال هذا العالم في الحر والبرد والفصول الأربعة ، إنما يحصل عند تغير أحوال الشمس في أرباع الفلك ربطوا الفصول الأربعة بحركة الشمس ، ثم لما شاهدوا أن أحوال النبات والحيوان مختلفة بحسب اختلاف الفصول الأربعة ربطوا حدوث النبات وتغير أحوال الحيوان باختلاف الفصول الأربعة ، فبهذا الطريق غلب على طباع أكثر الخلق أن المدبر لحدوث الحوادث في هذا العالم هو الشمس والقمر وسائر الكواكب ، ثم إنه تعالى إذا وفق إنسانا حتى ترقى من هذه الدرجة وعرف أنها في ذواتها وصفاتها مفتقرة إلى موجد ومبدع قاهر قادر عليم حكيم ، فذلك الشخص يكون في غاية الندرة ، فلهذا قال : ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية