صفحة جزء
المسألة الرابعة : في شرح كون السماء بناء ، قال الجاحظ : إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منورة كالمصابيح ، والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه ، وضروب النبات مهيأة لمنافعه وضروب الحيوانات مصرفة في مصالحه ، فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية ، والله أعلم . أما قوله تعالى : ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) فاعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض وكانت كالصدف والدرة المودعة فيه آدم وأولاده ، ثم علم الله أصناف حاجاتهم ؛ فكأنه قال : يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال : ( أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا ) [ عبس : 25 ، 26 ] ، فانظر يا عبدي أن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ، ولو أني خلقت الأرض من الذهب والفضة هل كان يحصل منها هذه المنافع ، ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا مع أنها سجن ، فكيف الحال في الجنة ، فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم ؛ لأن الأم تسقيك لونا واحدا من اللبن ، والأرض تطعمك كذا وكذا لونا من الأطعمة ، ثم قال : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ) [ طه : 55 ] ، معناه نردكم إلى هذه الأم ، وهذا ليس بوعيد ؛ لأن المرء لا يوعد بأمه ، وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض ، ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر ما مسك جوع ولا عطش ، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى ، ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى ، كما كنت في بطن الأم الصغرى ؛ لأنك حين كنت في بطن الأم الصغرى ما كانت لك زلة ، فضلا عن أن تكون لك كبيرة ، بل كنت مطيعا لله بحيث دعاك مرة إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك ، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك .

واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الأرض والسماء بين ما بينهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء على الأرض والإخراج به من بطنها أشباه النسل الحاصل من الحيوان ، ومن أنواع الثمار رزقا ليتفكروا في أنفسهم وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم ، ويعرفوا أن شيئا من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينها وتخليقها إلا من كان مخالفا لها في الذات والصفات ، وذلك هو الصانع الحكيم سبحانه وتعالى .

وههنا سؤالات :

[ ص: 102 ] السؤال الأول : هل تقولون : إن الله تعالى هو الخالق لهذه الثمرات عقيب وصول الماء إليها بمجرى العادة ، أو تقولون : إن الله تعالى خلق في الماء طبيعة مؤثرة ، وفي الأرض طبيعة قابلة ، فإذا اجتمعا حصل الأثر من تلك القوة التي خلقها الله تعالى ؟

والجواب : لا شك أن على كلا القولين لا بد من الصانع الحكيم .

وأما التفصيل فنقول : لا شك أنه تعالى قادر على خلق هذه الثمار ابتداء من غير هذه الوسائط لأن الثمرة لا معنى لها إلا جسم قام به طعم ولون ورائحة ورطوبة ، والجسم قابل لهذه الصفات ، وهذه الصفات مقدورة لله تعالى ابتداء ؛ لأن المصحح للمقدورية إما الحدوث ، أو الإمكان ، وإما هما . وعلى التقديرات فإنه يلزم أن يكون الله تعالى قادرا على خلق هذه الأعراض في الجسم ابتداء بدون هذه الوسائط ، ومما يؤكد هذا الدليل العقلي من الدلائل النقلية ما ورد الخبر بأنه تعالى يخترع نعيم أهل الجنة للمثابين من غير هذه الوسائط ، إلا أنا نقول : قدرته على خلقها ابتداء لا تنافي قدرته عليها بواسطة خلق هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام ، وظاهر قول المتأخرين من المتكلمين إنكار ذلك ولا بد فيه من دليل .

السؤال الثاني : لما كان قادرا على خلق هذه الثمار بدون هذه الوسائط فما الحكمة في خلقها بهذه الوسائط في هذه المدة الطويلة ؟

والجواب : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد .

ثم ذكروا من الحكم المفصلة وجوها :

أحدها : أنه تعالى إنما أجرى العادة بأن لا يفعل ذلك إلا على ترتيب وتدريج ؛ لأن المكلفين إذا تحملوا المشقة في الحرث والغرس طلبا للثمرات وكدوا أنفسهم في ذلك حالا بعد حال علموا أنهم لما احتاجوا إلى تحمل هذه المشاق لطلب هذه المنافع الدنيوية ، فلأن يتحملوا مشاق أقل من المشاق الدنيوية لطلب المنافع الأخروية التي هي أعظم من المنافع الدنيوية كان أولى ، وصار هذا كما قلنا أنه تعالى قادر على خلق الشفاء من غير تناول الدواء لكنه أجرى عادته بتوقيفه عليه ؛ لأنه إذا تحمل مرارة الأدوية دفعا لضرر المرض ، فلأن يتحمل مشاق التكليف دفعا لضرر العقاب كان أولى .

وثانيها : أنه تعالى لو خلقها دفعة من غير هذه الوسائط لحصل العلم الضروري بإسنادها إلى القادر الحكيم ، وذلك كالمنافي للتكليف والابتلاء . أما لو خلقها بهذه الوسائط فحينئذ يفتقر المكلف في إسنادها إلى القادر إلى نظر دقيق وفكر غامض ، فيستوجب الثواب ، ولهذا قيل : لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب .

وثالثها : أنه ربما كان للملائكة ولأهل الاستبصار عبر في ذلك وأفكار صائبة .

السؤال الثالث : قوله : ( وأنزل من السماء ماء ) يقتضي نزول المطر من السماء ، وليس الأمر كذلك ؛ فإن الأمطار إنما تتولد من أبخرة ترتفع من الأرض وتتصاعد إلى الطبقة الباردة من الهواء فتجتمع هناك بسبب البرد وتنزل بعد اجتماعها وذلك هو المطر .

والجواب من وجوه :

أحدها : أن السماء إنما سميت سماء لسموها ، فكل ما سماك فهو سماء ، فإذا نزل من السحاب فقد نزل من السماء .

وثانيها : أن المحرك لإثارة تلك الأجزاء الرطبة من عمق الأرض الأجزاء الرطبة ( وأنزل من السماء ماء ) .

وثالثها : أن قول الله هو الصدق ، وقد أخبر أنه تعالى ينزل المطر من السماء ، فإذا علمنا أنه مع ذلك ينزل من السحاب فيجب أن يقال : ينزل من السماء إلى السحاب ، ومن السحاب إلى الأرض .

السؤال الرابع : ما معنى " من " في قوله : ( من الثمرات ) .

الجواب فيه وجهان :

أحدهما : التبعيض لأن المنكرين - أعني ماء ورزقا - يكتنفانه ، وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية ، فكأنه قيل : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم .

والثاني : أن يكون للبيان ، كقولك : أنفقت من الدراهم [ ص: 103 ] إنفاقا . فإن قيل : فبم انتصب (رزقا) ؟ قلنا : إن كان (من) للتبعيض كان انتصابه بأنه مفعول له . وإن كانت مبينة كان مفعولا لـ (أخرج) .

السؤال الخامس : الثمر المخرج بماء السماء كثير ، فلم قيل : (الثمرات) دون الثمر أو الثمار ؟

الجواب : تنبيها على قلة ثمار الدنيا وإشعارا بتعظيم أمر الآخرة ، والله أعلم .

أما قوله تعالى : ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) ففيه سؤالات .

السؤال الأول : بم تعلق قوله : ( فلا تجعلوا ) ؟

الجواب فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلق بالأمر ، أي اعبدوا فلا تجعلوا لله أندادا ؛ فإن أصل العبادة وأساسها التوحيد .

وثانيها : بـ (لعل) والمعنى خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه ، فلا تثبتوا له ندا فإنه من أعظم موجبات العقاب .

وثالثها : بقوله : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا ) أي هو الذي خلق لكم هذه الدلائل الباهرة فلا تتخذوا له شركاء .

السؤال الثاني : ما الند ؟ الجواب : أنه المثل المنازع ، وناددت الرجل : نافرته ، من ند ندودا : إذا نفر ، كأن كل واحد من الندين يناد صاحبه ، أي ينافره ويعانده . فإن قيل : إنهم لم يقولوا : إن الأصنام تنازع الله . قلنا : لما عبدوها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة قادرة على منازعته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم ، وكما تهكم بلفظ الند شنع عليهم بأنهم جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصلح أن يكون له ند قط ، وقرأ محمد بن السميفع : (فلا تجعلوا لله ندا) .

التالي السابق


الخدمات العلمية