( 
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين   ) 
قوله تعالى : ( 
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين   ) 
في الآية مسائل : 
المسألة الأولى : روي أن 
يوسف  عليه السلام أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن   
[ ص: 173 ] الذهب والفضة وخزائن الحلي وخزائن الثياب وخزائن السلاح ، فلما أدخله مخازن القراطيس قال : يا بني ، ما أغفلك ! عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل ؟ قال : نهاني 
جبريل  عليه السلام عنه ، قال : سله عن السبب ، قال : أنت أبسط إليه ؛ فسأله ، فقال 
جبريل  عليه السلام : أمرني الله بذلك لقولك : وأخاف أن يأكله الذئب ، فهلا خفتني ! 
وروي أن 
يعقوب  عليه السلام أقام معه أربعا وعشرين سنة ، ولما قربت وفاته أوصى إليه أن يدفنه 
بالشام  إلى جنب أبيه 
إسحاق  ، فمضى بنفسه ودفنه ، ثم عاد إلى 
مصر  ، وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة ، فعند ذلك تمنى ملك الآخرة فتمنى الموت ، وقيل : ما تمناه نبي قبله ولا بعده ؛ فتوفاه الله طيبا طاهرا ، فتخاصم أهل 
مصر  في دفنه ، كل أحد يحب أن يدفنه في محلتهم حتى هموا بالقتال ؛ فرأوا أن الأصلح أن يعملوا له صندوقا من مرمر ويجعلوه فيه ، ويدفنوه في النيل بمكان يمر الماء عليه ، ثم يصل إلى 
مصر  لتصل بركته إلى كل أحد ، وولد له إفرائيم وميشا ، وولد لإفرائيم نون ، ولنون 
يوشع  فتى 
موسى  ، ثم دفن 
يوسف  هناك إلى أن بعث الله 
موسى  ، فأخرج عظامه من 
مصر  ، ودفنها عند قبر أبيه . 
المسألة الثانية : من في قوله : ( 
من الملك   ) و ( 
من تأويل الأحاديث   ) للتبعيض ؛ لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا أو بعض ملك 
مصر  وبعض التأويل ، قال 
الأصم    : إنما قال : من الملك ، لأنه كان ذو ملك فوقه . 
واعلم أن مراتب الموجودات ثلاثة : المؤثر الذي لا يتأثر ، وهو الإله تعالى وتقدس ، والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجسام ، فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة ، فلا يكون لها تأثير في شيء أصلا ، وهذان القسمان متباعدان جدا ، ويتوسطهما قسم ثالث ، وهو الذي يؤثر ويتأثر ، وهو عالم الأرواح ، فخاصية جوهر الأرواح أنها تقبل الأثر والتصرف عن عالم نور جلال الله ، ثم إنها إذا أقبلت على عالم الأجسام تصرفت فيه وأثرت فيه ، فتعلق الروح بعالم الأجسام بالتصرف والتدبير فيه ، وتعلقه بعالم الإلهيات بالعلم والمعرفة . وقوله تعالى : ( 
قد آتيتني من الملك   ) إشارة إلى تعلق النفس بعالم الأجسام ، وقوله : ( 
وعلمتني من تأويل الأحاديث   ) إشارة إلى تعلقها بحضرة جلال الله ، ولما كان لا نهاية لدرجات هذين النوعين في الكمال والنقصان والقوة والضعف والجلاء والخفاء ، امتنع أن يحصل منهما للإنسان إلا مقدار متناه ، فكان الحاصل في الحقيقة بعضا من أبعاض الملك ، وبعضا من أبعاض العلم ، فلهذا السبب ذكر فيه كلمة " من " لأنها دالة على التبعيض ، ثم قال : ( 
فاطر السماوات والأرض   ) وفيه أبحاث : 
البحث الأول : في تفسير لفظ الفاطر بحسب اللغة . 
قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  رضي الله عنهما : ما كنت أدري معنى الفاطر حتى احتكم إلي أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، وأنا ابتدأت حفرها . 
قال أهل اللغة : أصل الفطر في اللغة الشق ، يقال : فطر ناب البعير إذا بدا وفطرت الشيء فانفطر ، أي شققته فانشق ، وتفطرت الأرض بالنبات والشجر بالورق إذا تصدعت ، هذا أصله في اللغة ، ثم صار عبارة عن الإيجاد ؛ لأن ذلك الشيء حال عدمه كأنه في ظلمة وخفاء ، فلما دخل في الوجود صار كأنه انشق عن العدم ، وخرج ذلك الشيء منه . 
البحث الثاني : أن لفظ الفاطر قد يظن أنه عبارة عن تكوين الشيء عن العدم المحض بدليل الاشتقاق الذي ذكرناه ، إلا أن الحق أنه لا يدل عليه ، ويدل عليه وجوه : 
أحدها : أنه قال : ( 
الحمد لله فاطر   )   
[ ص: 174 ]   ( 
السماوات والأرض   ) ثم بين تعالى أنه إنما خلقها من الدخان حيث قال : ( 
ثم استوى إلى السماء وهي دخان   ) ( فصلت : 11 ) فدل على أن لفظ الفاطر لا يفيد أنه أحدث ذلك الشيء من العدم المحض . 
وثانيها : أنه قال تعالى : ( 
فطرة الله التي فطر الناس عليها   ) ( الروم : 30 ) مع أنه تعالى إنما خلق الناس من التراب . 
قال تعالى : ( 
منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى   ) ( طه : 55 ) . 
وثالثها : أن الشيء إنما يكون حاصلا عند حصول مادته وصورته مثل الكوز ، فإنه إنما يكون موجودا إذا صارت المادة المخصوصة موصوفة بالصفة المخصوصة ، فعند عدم الصورة ما كان ذلك المجموع موجودا ، وبإيجاد تلك الصورة صار موجدا لذلك الكوز ، فعلمنا أن كونه موجدا للكون لا يقتضي كونه موجدا لمادة الكوز ، فثبت أن لفظ الفاطر لا يفيد كونه تعالى موجدا للأجزاء التي منها تركبت السماوات والأرض ، وإنما صار إلينا كونه موجدا لها بحسب الدلائل العقلية لا بحسب لفظ القرآن . 
واعلم أن قوله : ( 
فاطر السماوات والأرض   ) يوهم أن تخليق السماوات مقدم على تخليق الأرض عند من يقول : الواو تفيد الترتيب ، ثم العقل يؤكده أيضا ، وذلك لأن تعين المحيط يوجب تعين المركز ، وتعينه فإنه لا يوجب تعين المحيط ، لأنه يمكن أن يحيط بالمركز الواحد محيطات لا نهاية لها ، أما لا يمكن أن يحصل للمحيط الواحد إلا مركز واحد بعينه . 
وأيضا اللفظ يفيد أن السماء كثيرة والأرض واحدة ، ووجه الحكمة فيه قد ذكرناه في قوله : ( 
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض   ) ( الأنعام : 1 ) . 
البحث الثالث : قال 
الزجاج    : نصبه من وجهين : 
أحدهما : على الصفة لقوله : ( 
رب   ) وهو نداء مضاف في موضع النصب . 
والثاني : يجوز أن ينصب على نداء ثان . 
ثم قال : ( 
أنت وليي في الدنيا والآخرة   ) والمعنى : أنت الذي تتولى إصلاح جميع مهماتي في الدنيا والآخرة ؛ فوصل الملك الفاني بالملك الباقي ، وهذا يدل على أن 
الإيمان والطاعة كلمة من الله تعالى ، إذ لو كان ذلك من العبد لكان المتولي لمصالحه هو هو ، وحينئذ يبطل عموم قوله : ( 
رب قد آتيتني من الملك   ) .