صفحة جزء
[ ص: 5 ] والنوع الثالث من الدلائل المذكورة في هذه الآية : الاستدلال بعجائب خلقة النبات ، وإليه الإشارة بقوله : ( ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أن الحبة إذا وضعت في الأرض وأثرت فيها نداوة الأرض ربت وكبرت ، وبسبب ذلك ينشق أعلاها وأسفلها ، فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصاعدة في الهواء ، ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في أسفل الأرض وهذا من العجائب ، لأن طبيعة تلك الحبة واحدة وتأثير الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد ، ثم إنه خرج من الجانب الأعلى من تلك الحبة جرم صاعد إلى الهواء ، ومن الجانب الأسفل منه جرم غائص في الأرض ، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان ، فعلمنا أن ذلك إنما كان بسبب تدبير المدبر الحكيم والمقدر القديم ، لا بسبب الطبع والخاصية ، ثم إن الشجرة الثابتة من تلك الحبة بعضها يكون خشبا وبعضها يكون نورا وبعضها يكون ثمرة ، ثم إن تلك الثمرة أيضا يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع ، فالجوز له أربعة أنواع من القشور ، فالقشر الأعلى وتحته القشرة الخشبة وتحته القشرة المحيطة باللبنة ، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرقة تمتاز عما فوقها حال كون الجوز رطبا ، وأيضا فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطباع المختلفة ، فالأترج قشره حار يابس ، ولحمه حار رطب ، وحماضه بارد يابس ، وبزره حار يابس ، ونوره حار يابس ، وكذلك العنب قشره وعجمه باردان يابسان ، ولحمه وماؤه حاران رطبان ، فتولد هذه الطبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع وتأثيرات الأنجم والأفلاك لا بد وأن يكون لأجل تدبير الحكيم القادر القديم.

المسألة الثانية : المراد بزوجين اثنين : صنفين اثنين ، والاختلاف إما من حيث الطعم كالحلو والحامض أو الطبيعة كالحار والبارد ، أو اللون كالأبيض والأسود.

فإن قيل : الزوجان لا بد وأن يكون اثنين ، فما الفائدة في قوله : ( زوجين اثنين ) .

قلنا : قيل إنه تعالى أول ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط ، فلو قال : خلق زوجين لم يعلم أن المراد النوع أو الشخص ، أما لما قال اثنين علمنا أن الله تعالى أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد. والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة ، إلا أنهم لما ابتدءوا من زوجين اثنين بالشخص هما آدم وحواء ، فكذلك القول في جميع الأشجار والزرع ، والله أعلم.

النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه الآية : الاستدلال بأحوال الليل والنهار وإليه الإشارة بقوله : ( يغشي الليل النهار ) والمقصود أن الإنعام لا يكمل إلا بالليل والنهار وتعاقبهما ، كما قال : ( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) [الإسراء : 12] ، ومنه قوله : ( يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ) [الأعراف : 54] وقد سبق الاستقصاء في تقريره فيما سلف من هذا الكتاب ، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم : [يغشي] بالتشديد وفتح الغين ، والباقون بالتخفيف ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة قال : ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) .

واعلم أنه تعالى في أكثر الأمر حيث يذكر الدلائل الموجودة في العالم السفلي يذكر عقبها : ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) أو ما يقرب منه بحسب المعنى ، والسبب فيه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية ، فما لم تقم الدلالة على دفع هذا السؤال لا يتم [ ص: 6 ] المقصود ، فلهذا المعنى قال : ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) كأنه تعالى يقول : مجال الفكر باق بعد ، ولا بد بعد هذا المقام من التفكر والتأمل ليتم الاستدلال.

واعلم أن الجواب عن هذا السؤال من وجهين :

الأول : أن نقول هب أنكم أسندتم حوادث العالم السفلي إلى الأحوال الفلكية والاتصالات الكوكبية إلا أنا أقمنا الدليل القاطع على أن اختصاص كل واحد من الأجرام الفلكية وطبعه ووضعه وخاصيته لا بد أن يكون بتخصيص المقدر القديم والمدبر الحكيم ، فقد سقط هذا السؤال ، وهذا الجواب قد قرره الله تعالى في هذا المقام ؛ لأنه تعالى ابتدأ بذكر الدلائل السماوية وقد بينا أنها كيف تدل على وجود الصانع ، ثم إنه تعالى أتبعها بالدلائل الأرضية.

فإن قال قائل : لم لا يجوز أن تكون هذه الحوادث الأرضية لأجل الأحوال الفلكية ، كان جوابنا أن نقول : فهب أن الأمر كذلك إلا أنا دللنا فيما تقدم على افتقار الأجرام الفلكية إلى الصانع الحكيم ، فحينئذ لا يكون هذا السؤال قادحا في غرضنا.

والوجه الثاني من الجواب : أن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث السفلية لأجل الاتصالات الفلكية ، وذلك هو المذكور في الآية التي تأتي بعد هذه الآية ، ومن تأمل في هذه اللطائف ووقف عليها علم أن هذا الكتاب اشتمل على علوم الأولين والآخرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية