صفحة جزء
النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) واعلم أنا قد ذكرنا معنى الصواعق في سورة البقرة ، قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمانه ويجادلانه ، ويريدان الفتك به ، فقال أربد بن ربيعة أخو لبيد بن ربيعة : أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد؟ ثم إنه لما رجع أربد أرسل عليه صاعقة فأحرقته ، ورمى عامرا بغدة كغدة البعير ، ومات في بيت سلولية.

واعلم أن أمر الصاعقة عجيب جدا ، وذلك لأنها تارة تتولد من السحاب ، وإذا نزلت من السحاب ، فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان في لجة البحر ، والحكماء بالغوا في وصف قوتها ، ووجه الاستدلال أن النار حارة يابسة وطبيعتها ضد طبيعة السحاب ، فوجب أن تكون طبيعتها في الحرارة واليبوسة أضعف من طبيعة النيران الحادثة عندنا على العادة ، لكنه ليس الأمر كذلك ، فإنها أقوى نيران هذا العالم ، فثبت أن اختصاصها بمزيد تلك القوة لا بد وأن يكون بسبب تخصيص الفاعل المختار.

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل الأربعة ، قال : ( وهم يجادلون في الله ) والمراد أنه تعالى بين دلائل كمال علمه في قوله : ( يعلم ما تحمل كل أنثى ) [الرعد : 8] وبين دلائل كمال القدرة في هذه الآية.

ثم قال : ( وهم يجادلون في الله ) يعني : هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله وهو يحتمل وجوها :

أحدها : أن يكون المراد الرد على الكافر الذي قال : أخبرنا عن ربنا أمن نحاس أم من [ ص: 23 ] حديد؟

وثانيها : أن يكون المراد الرد على جدالهم في إنكار البعث وإبطال الحشر والنشر.

وثالثها : أن يكون المراد الرد عليهم في طلب سائر المعجزات.

ورابعها : أن يكون المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال.

وفي هذه الواو قولان :

الأول : أنها للحال ، والمعنى : فيصيب بالصاعقة من يشاء في حال جداله في الله ، وذلك أن أربد لما جادل في الله أحرقته الصاعقة.

والثاني : أنها واو الاستئناف كأنه تعالى لما تمم ذكر هذه الدلائل قال بعد ذلك : ( وهم يجادلون في الله ) .

ثم قال تعالى : ( وهو شديد المحال ) وفي لفظ المحال أقوال :

قال ابن قتيبة : الميم زائدة وهو من الحول ، ونحوه ميم مكان.

وقال الأزهري : هذا غلط ، فإن الكلمة إذا كانت على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية ، نحو مهاد ومداس ومداد ، واختلفوا مما أخذ على وجوه :

الأول : قيل من قولهم : محل فلان بفلان إذا سعى به إلى السلطان وعرضه للهلاك ، وتمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ، فكان المعنى : أنه سبحانه شديد المكر لأعدائه يهلكهم بطريق لا يتوقعونه .

الثاني : أن المحال عبارة عن الشدة ، ومنه تسمى السنة الصعبة سنة المحل وماحلت فلانا محالا ، أي قاومته أينا أشد ، قال أبو مسلم : ومحال فعال من المحل وهو الشدة ، ولفظ فعال يقع على المجازاة والمقابلة ، فكأن المعنى : أنه تعالى شديد المغالبة ، وللمفسرين هاهنا عبارات ، فقال مجاهد وقتادة : شديد القوة ، وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة ، وقال الحسن : شديد النقمة ، وقال ابن عباس : شديد الحول.

الثالث : قال ابن عرفة : يقال ماحل عن أمره أي جادل ، فقوله : ( شديد المحال ) أي شديد الجدال.

الرابع : روي عن بعضهم : ( شديد المحال ) أي شديد الحقد. قالوا : هذا لا يصح ؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى ، إلا أنا قد ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه الألفاظ إذا وردت في حق الله تعالى ، فإنها تحصل على نهايات الأعراض لا على مبادئ الأعراض ، فالمراد بالحقد هاهنا هو أنه تعالى يريد إيصال الشر إليه مع أنه يخفي عنه تلك الإرادة.

التالي السابق


الخدمات العلمية