صفحة جزء
[ ص: 132 ] ( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون )

قوله تعالى : ( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون )

اعلم أن هذا الكلام هو المذكور في سورة الأنعام في قوله : ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) [الأنعام : 7] والحاصل : أن القوم لما طلبوا نزول ملائكة يصرحون بتصديق الرسول عليه السلام في كونه رسولا من عند الله تعالى بين الله تعالى في هذه الآية أن بتقدير أن يحصل هذا المعنى لقال الذين كفروا هذا من باب السحر وهؤلاء الذين يظن أنا نراهم ، فنحن في الحقيقة لا نراهم .

والحاصل : أنه لما علم الله تعالى أنه لا فائدة في نزول الملائكة فلهذا السبب ما أنزلهم .

فإن قيل : كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يصيروا شاكين في وجود ما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح ، ولو جاز حصول الشك في ذلك كانت السفسطة لازمة ، ولا يبقى حينئذ اعتماد على الحس والمشاهدة .

أجاب القاضي عنه : بأنه تعالى ما وصفهم بالشك فيما يبصرون ، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول ، وقد يجوز أن يقدم الإنسان على الكذب على سبيل العناد والمكابرة ، ثم سأل نفسه وقال : أفيصح من الجمع العظيم أن يظهروا الشك في المشاهدات ، وأجاب بأنه يصح ذلك إذا جمعهم عليه غرض صحيح معتبر من مواطأة على دفع حجة أو غلبة خصم ، وأيضا فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصوصين ، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم إنزال الملائكة ، وهذا السؤال ما كان إلا من رؤساء القوم ، وكانوا قليلي العدد ، وإقدام العدد القليل على ما يجري مجرى المكابرة جائز .

المسألة الثانية : قوله تعالى : ( فظلوا فيه يعرجون ) يقال : ظل فلان نهاره يفعل كذا إذا فعله بالنهار ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل عمل بالنهار ، كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل ، والمصدر الظلول ، وقوله : ( فيه يعرجون ) يقال : عرج يعرج عروجا ، ومنه المعارج ، وهي المصاعد التي يصعد فيها ، وللمفسرين في هذه الآية قولان :

القول الأول : أن قوله : ( فظلوا فيه يعرجون ) من صفة المشركين . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج ، وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه ، وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكوا في تلك الرؤية ، وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر ، وما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله .

القول الثاني : أن هذا العروج للملائكة ، والمعنى : أنه تعالى لو جعل هؤلاء الكفار بحيث يروا أبوابا من السماء مفتوحة ، وتصعد منها الملائكة وتنزل لصرفوا ذلك عن وجهه ، ولقالوا : إن السحرة سحرونا وجعلونا [ ص: 133 ] بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها وقوله : ( لقالوا إنما سكرت أبصارنا ) فيه مسألتان :

المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ( سكرت ) بالتخفيف ، والباقون مشددة الكاف قال الواحدي سكرت غشيت ، وسددت بالسحر هذا قول أهل اللغة قالوا : وأصله من السكر وهو سد الشق ; لئلا ينفجر الماء ، فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري ، والتشديد يوجب زيادة وتكثيرا ، وقال أبو عمرو بن العلاء : هو مأخوذ من سكر الشراب يعني : أن الأبصار حارت ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغير العقل ، فإذا كان هذا معنى التخفيف فسكرت بالتشديد يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد أخرى ، وقال أبو عبيدة : ( سكرت أبصارنا ) أي : غشيت أبصارنا فوجب سكونها وبطلانها ، وعلى هذا القول أصله من السكون يقال : سكرت الريح سكرا إذا سكنت ، وسكر الحر يسكر ، وليلة ساكرة لا ريح فيها ، وقال أوس :


جذلت على ليلة ساهرة فليست بطلق ولا ساكرة



ويقال : سكرت عينه سكرا إذا تحيرت ، وسكنت عن النظر وعلى هذا معنى سكرت أبصارنا ، أي : سكنت عن النظر وهذا القول اختيار الزجاج . وقال أبو علي الفارسي : سكرت صارت بحيث لا ينفذ نورها ، ولا تدرك الأشياء على حقائقها ، وكان معنى السكر قطع الشيء عن سننه الجاري ، فمن ذلك تسكير الماء وهو رده عن سننه في الجرية ، والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في الصحو ، فهذه أقوال أربعة في تفسير ( سكرت ) وهي في الحقيقة متقاربة ، والله أعلم .

المسألة الثانية : قال الجبائي : من جوز قدرة السحرة على أن يأخذوا بأعين الناس حتى يروهم الشيء على خلاف ما هو عليه لم يصح إيمانه بالأنبياء والرسل ، وذلك لأنهم إذا جوزوا ذلك فلعل هذا الذي يرى أنه محمد بن عبد الله ليس هو ذلك الرجل وإنما هو شيطان ، ولعل هذه المعجزات التي نشاهدها ليس لها حقائق ، بل هي تكون من باب الآراء الباطلة من ذلك الساحر ، وإذا حصل هذا التجويز بطل الكل . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية