1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة البقرة
  4. قوله تعالى وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار
صفحة جزء
( المسألة الثالثة ) : احتج المعتزلة على أن الطاعة توجب الثواب فإن في حال ما بشرهم بأن لهم جنات لم يحصل ذلك لهم على طريق الوقوع ، ولما لم يمكن حمل الآية عليه وجب حملها على استحقاق الوقوع ؛ لأنه يجوز التعبير بالوقوع عن استحقاق الوقوع مجازا .

المسألة الرابعة : الجنة : البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه . والتركيب دائر على معنى الستر وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنه إذا ستره ، كأنها سترة [ ص: 119 ] واحدة لفرط التفافها ، وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان ، فإن قيل : لم نكرت الجنات وعرفت الأنهار ؟ الجواب : أما الأول فلأن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين ، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنات ، وأما تعريف الأنهار فالمراد به الجنس ، كما يقال : لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب ، يشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب ، أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله : ( فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ) [ محمد : 15 ] .

وأما قوله : ( كلما رزقوا ) فهذا لا يخلو إما أن يكون صفة ثانية لجنات ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل : إن لهم جنات ، لم يخل قلب السامع أن يقع فيه أن ثمار تلك الجنات أشباه ثمار الدنيا أم لا ؟ وههنا سؤالات :

السؤال الأول : ما موقع من ثمرة ؟ الجواب : فيه وجهان :

الأول : هو كقولك : كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئا حمدتك ، فموقع (من ثمرة) موقع قولك : من الرمان ، فـ (من) الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية ؛ لأن الرزق قد ابتدأ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة ، وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفردة على هذا التفسير ، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار .

الثاني : وهو أن يكون (من ثمرة) بيانا على منهاج قولك : رأيت منك أسدا ، تريد أنت أسد ، وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمرة أو الحبة الواحدة .

السؤال الثاني : كيف يصح أن يقولوا : هذا الذي رزقنا الآن هو الذي رزقنا من قبل ؟

الجواب : لما اتحد في الماهية وإن تغاير بالعدد صح أن يقال : هذا هو ذاك ؛ أي بحسب الماهية فإن الوحدة النوعية لا تنافيها الكثرة بالشخص ، ولذلك إذا اشتدت مشابهة الابن بالأب قالوا : إنه الأب .

السؤال الثالث : الآية تدل على أنهم شبهوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنة برزق آخر جاءهم قبل ذلك ، فالمشبه به أهو من أرزاق الدنيا أم من أرزاق الجنة ؟ والجواب فيه وجهان :

الأول : أنه من أرزاق الدنيا ، ويدل عليه وجهان :

الأول : أن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل ، فإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه ، ثم إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد ثم وجده أشرف مما ألفه أولا عظم ابتهاجه وفرحه به ، فأهل الجنة إذا أبصروا الرمانة في الدنيا ثم أبصروها في الآخرة ووجدوا رمانة الجنة أطيب وأشرف من رمانة الدنيا كان فرحهم بها أشد من فرحهم بشيء مما شاهدوه في الدنيا .

والدليل الثاني : أن قوله : ( كلما رزقوا منها ) يتناول جميع المرات ، فيتناول المرة الأولى ، فلهم في المرة الأولى من أرزاق الجنة شيء لا بد وأن يقولوا : هذا الذي رزقنا من قبل ، ولا يكون قبل المرة الأولى شيء من أرزاق الجنة حتى يشبه ذلك به فوجب حمله على أرزاق الدنيا .

القول الثاني : أن المشبه به رزق الجنة أيضا والمراد تشابه أرزاقهم . ثم اختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين :

الأول : المراد تساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص .

الثاني : المراد تشابهها في المنظر فيكون الثاني كأنه الأول على ما روي عن الحسن . ثم هؤلاء مختلفون فمنهم من يقول : الاشتباه كما يقع في المنظر يقع في المطعم ، فإن الرجل إذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق به نفسه إلا بمثله ، فإذا جاء ما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة ، ومنهم من يقول : إنه وإن حصل الاشتباه في اللون لكنها تكون مختلفة في الطعم ، قال الحسن : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل ، فيقول الملك : كل فاللون واحد والطعم [ ص: 120 ] مختلف ، وفي الآية قول ثالث على لسان أهل المعرفة ، وهو أن كمال السعادة ليس إلا في معرفة ذات الله تعالى ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات الأرواح وعالم السماوات ، وبالجملة يجب أن يصير روح الإنسان كالمرآة المحاذية لعالم القدس ، ثم إن هذه المعارف تحصل في الدنيا ولا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج ، لما أن العلائق البدنية تعوق عن ظهور تلك السعادات واللذات ، فإذا زال هذا العائق حصلت السعادة العظيمة والغبطة الكبرى ، فالحاصل أن كل سعادة روحانية يجدها الإنسان بعد الموت فإنه يقول : هذه هي التي كانت حاصلة لي حين كنت في الدنيا ، وذلك إشارة إلى أن الكمالات النفسانية الحاصلة في الآخرة هي التي كانت حاصلة في الدنيا إلا أنها في الدنيا ما أفادت اللذة والبهجة والسرور ، وفي الآخرة أفادت هذه الأشياء لزوال العائق .

أما قوله : ( وأتوا به متشابها ) ففيه سؤالان :

السؤال الأول : إلام يرجع الضمير في قوله : ( وأتوا به ) ؟ الجواب : إن قلنا : المشبه به هو رزق الدنيا ، فإلى الشيء المرزوق في الدنيا والآخرة ، يعني أتوا بذلك النوع متشابها يشبه الحاصل منه في الآخرة ما كان حاصلا منه في الدنيا ، وإن قلنا : المشبه به هو رزق الجنة أيضا ، فإلى الشيء المرزوق في الجنة ، يعني أتوا بذلك النوع في الجنة بحيث يشبه بعضه بعضا .

السؤال الثاني : كيف موقع قوله : ( وأتوا به متشابها ) من نظم الكلام ؟ والجواب : أن الله تعالى لما حكى عن أهل الجنة ادعاء تشابه الأرزاق في قوله : ( قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ) فالله تعالى صدقهم في تلك الدعوة بقوله : ( وأتوا به متشابها ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية