صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ) ففيه بحثان :

البحث الأول : الباء في ( بما أغويتني ) للقسم وما مصدرية ، وجواب القسم لأزينن . والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم ، ونظيره قوله تعالى : ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) [ص : 82] إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله ، وهي من صفات الذات ، وفي قوله : ( بما أغويتني ) أقسم بإغواء الله وهو من صفات الأفعال . والفقهاء قالوا : القسم بصفات الذات صحيح ، أما بصفات الأفعال فقد اختلفوا فيه . ونقل الواحدي عن قوم آخرين أنهم قالوا : الباء ههنا بمعنى السبب ، أي : بسبب كوني غاويا لأزينن كقول القائل ، أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار ، وبطاعته ليدخلن الجنة .

البحث الثاني : اعلم أن أصحابنا قد احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يريد خلق الكفر في الكافر ، ويصده عن الدين ، ويغويه عن الحق من وجوه :

الأول : أن إبليس استمهل وطلب البقاء إلى قيام القيامة مع أنه صرح بأنه إنما يطلب هذا الإمهال والإبقاء لإغواء بني آدم وإضلالهم ، وأنه تعالى أمهله وأجابه إلى هذا المطلوب ، ولو كان تعالى يراعي مصالح المكلفين في الدين لما أمهله هذا الزمان الطويل ، ولما مكنه من الإغواء والإضلال والوسوسة .

الثاني : أن أكابر الأنبياء والأولياء مجدون ومجتهدون في إرشاد الخلق إلى الدين الحق ، وأن إبليس ورهطه وشيعته مجدون ومجتهدون في الضلال والإغواء ، فلو كان مراد الله تعالى هو [ ص: 148 ] الإرشاد والهداية لكان من الواجب إبقاء المرشدين والمحققين وإهلاك المضلين والمغوين ، وحيث فعل بالضد منه ، علمنا أنه أراد بهم الخذلان والكفر .

الثالث : أنه تعالى لما أعلمه بأنه يموت على الكفر ، وأنه ملعون إلى يوم الدين كان ذلك إغراء له بالكفر والقبيح ; لأنه أيس عن المغفرة والفوز بالجنة فيجترئ حينئذ على أنواع المعاصي والكفر .

الرابع : أنه لما سأل الله تعالى هذا العمر الطويل ، مع أنه تعالى علم منه أنه لا يستفيد من هذا العمر الطويل إلا زيادة الكفر والمعصية ، وبسبب تلك الزيادة يزداد استحقاقه لأنواع العذاب الشديد كان هذا الإمهال سببا لمزيد عذابه ، وذلك يدل على أنه تعالى أراد به أن يزداد عذابه وعقابه .

الخامس : أنه صرح بأن الله أغواه فقال : ( رب بما أغويتني ) وذلك تصريح بأن الله تعالى أغواه لا يقال : هذا كلام إبليس وهو ليس بحجة ، وأيضا فهو معارض بقول إبليس : ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) [ص : 82] فأضاف الإغواء إلى نفسه ; لأنا نقول :

أما الجواب عن الأول : فهو أنه لما ذكر هذا الكلام فإن الله تعالى ما أنكره عليه ، وذلك يدل على أنه كان صادقا فيما قال .

وأما الجواب عن الثاني : فهو أنه قال في هذه الآية : ( رب بما أغويتني لأزينن لهم ) فالمراد ههنا من قوله : ( لأزينن لهم ) هو المراد من قوله في تلك الآية : ( ولأغوينهم أجمعين ) إلا أنه بين في هذه الآية أنه إنما أمكنه أن يزين لهم الأباطيل لأجل أن الله تعالى أغواه قبل ذلك ، وعلى هذا التقدير فقد زال التناقض ويتأكد هذا بما ذكره الله تعالى حكاية عن الشياطين في سورة القصص : ( هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا ) [القصص : 63] .

السؤال السادس : أنه قال : ( رب بما أغويتني ) وهذا اعتراف بأن الله تعالى أغواه فنقول : إما أن يقال : إنه كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه ، أو ما عرف ذلك ، فإن كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه امتنع كونه غاويا ; لأنه إنما يعرف أن الله تعالى أغواه إذا عرف أن الذي هو عليه جهل وباطل ، ومن عرف ذلك امتنع بقاؤه على الجهل والضلالة ، وأما إن قلنا : بأنه ما عرف أن الله أغواه فكيف أمكنه أن يقول : ( رب بما أغويتني ) فهذا مجموع السؤالات الواردة في هذه الآية .

أما الإشكال الأول : فللمعتزلة فيه طريقان :

الطريق الأول : وهو طريق الجبائي أنه تعالى إنما أمهل إبليس تلك المدة الطويلة ; لأنه تعالى علم أنه لا يتفاوت أحوال الناس بسبب وسوسته ، فبتقدير أن لا يوجد إبليس ولا وسوسته فإن ذلك الكافر ، والعاصي كان يأتي بذلك الكفر والمعصية ، فلما كان الأمر كذلك ، لا جرم أمهله هذه المدة .

الطريق الثاني : وهو طريق أبي هاشم أنه لا يبعد أن يقال : إنه تعالى علم أن أقواما يقعون بسبب وسوسته في الكفر والمعصية ، إلا أن وسوسته ما كانت موجبة لذلك الكفر والمعصية ، بل الكافر والعاصي بسبب اختياره اختار ذلك الكفر وتلك المعصية ، أقصى ما في الباب أن يقال : الاحتراز عن القبائح حال عدم الوسوسة أسهل منه حال وجودها ، إلا أن على هذا التقدير تصير وسوسته سببا لزيادة المشقة في أداء الطاعات ، وذلك لا يمنع الحكيم من فعله ، كما أن إنزال المشاق وإنزال المتشابهات صار سببا لمزيد الشبهات ، ومع ذلك فلم يمتنع فعله فكذا ههنا ، وهذان الطريقان هما بعينهما [ ص: 149 ] الجواب عن السؤال الثاني .

وأما السؤال الثالث : وهو أن إعلامه بأنه يموت على الكفر يحمله على الجرأة على المعاصي والإكثار منها ، فجوابه أن هذا إنما يلزم إذا كان علم إبليس بموته على الكفر يحمله على الزيادة في المعاصي أما إذا علم الله تعالى من حاله أن ذلك لا يوجب التفاوت البتة ، فالسؤال زائل ، وهذا بعينه هو الجواب عن السؤال الرابع .

وأما السؤال الخامس : وهو أن إبليس صرح بأن الله تعالى أغواه وأضله عن الدين ، فقد أجابوا عنه بأنه ليس المراد ذلك بل فيه وجوه أخرى :

أحدها : المراد بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعاء إلى معصيتك .

وثانيها : المراد كما أضللتني عن طريق الجنة أضلهم أنا أيضا عنه بالدعاء إلى المعصية .

وثالثها : أن يكون المراد بالإغواء الأول الخيبة ، وبالثاني الإضلال .

ورابعها : أن المراد بإغواء الله تعالى إياه هو أنه أمره بالسجود لآدم فأفضى ذلك إلى غيه ، يعني : أنه حصل ذلك الغي عقيبه باختيار إبليس ، فأما أن يقال : إن ذلك الأمر صار موجبا لذاته لحصول ذلك الغي ، فمعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، هذا جملة كلام القوم في هذا الباب وكله ضعيف ، أما قوله إنه لا يتفاوت الحال بسبب وسوسة إبليس فنقول : هذا باطل ، ويدل عليه القرآن والبرهان ، أما القرآن فقوله تعالى : ( فأزلهما الشيطان ) [البقرة : 36] فأضاف تلك الزلة إلى الشيطان ، وقال : ( فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ) [طه : 117] فأضاف الإخراج إليه ، وقال موسى عليه السلام : ( هذا من عمل الشيطان ) [القصص : 15] وكل ذلك يدل على أن لعمل الشيطان في تلك الأفعال أثرا ، وأما البرهان فلأن بداية العقول شاهدة بأنه ليس حال من ابتلي بمجالسة شخص يرغبه أبدا في القبائح . وينفره عن الخيرات ، مثل شخص كان حاله بالضد منه ، والعلم بهذا التفاوت ضروري .

وأما قوله إن وجوده يصير سببا لزيادة المشقة في الطاعة فنقول : تأثير زيادة المشقة إنما هو في كثرة الثواب على أحد التقديرين ، وفي الإلقاء في العذاب الشديد على التقدير الثاني وهو التقدير الأكثر الأغلب ، وكل من يراعي المصالح ، فإن رعاية هذا التقدير الثاني أولى عنده من رعاية التقدير الأول ; لأن دفع الضرر العظيم أولى من السعي في طلب النفع الزائد الذي لا حاجة إلى حصوله أصلا ، ولما اندفع هذان الجوابان عن هذا السؤال قويت سائر الوجوه المذكورة ، وأما قوله : المراد من قوله : ( رب بما أغويتني ) الخيبة عن الرحمة أو الإضلال عن طريق الجنة فنقول : كل هذا بعيد ; لأنه هو الذي خيب نفسه عن الرحمة وهو الذي أضل نفسه عن طريق الجنة ; لأنه لما أقدم على الكفر باختياره فقد خيب نفسه عن الرحمة ، وأضل نفسه عن طريق الجنة فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى فثبت أن الإشكالات لازمة وأن أجوبتهم ضعيفة . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية