[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم 
( 
وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون   ) 
قوله تعالى : ( 
وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون   ) 
في الآية مسائل : 
المسألة الأولى : اعلم أن الله تعالى لما أجاب في هذه الآية عن السؤال الذي ذكرناه من وجهين : 
الأول : أن نقول : إن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مسندة إلى الاتصالات الفلكية والتشكلات الكوكبية ، إلا أنه لا بد لحركاتها واتصالاتها من أسباب ، وأسباب تلك الحركات إما ذواتها ، وإما أمور مغايرة لها ، والأول باطل لوجهين : 
الأول : أن الأجسام متماثلة ، فلو كان جسم علة لصفة لكان كل جسم واجب الاتصاف بتلك الصفة وهو محال . 
والثاني : أن ذات الجسم لو كانت علة لحصول هذا الجزء من الحركة لوجب دوام هذا الجزء من الحركة بدوام تلك الذات ، ولو كان كذلك ، لوجب بقاء الجسم على حالة واحدة من غير تغير أصلا ، وذلك يوجب كونه ساكنا ، ويمنع من كونه متحركا ، فثبت أن القول بأن الجسم متحرك لذاته يوجب كونه ساكنا لذاته وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلا ، فثبت أن الجسم يمتنع أن يكون متحركا لكونه جسما ، فبقي أن يكون متحركا لغيره ، وذلك الغير إما أن يكون ساريا فيه أو مباينا عنه ، والأول باطل ; لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لما اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام ، فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها ، وذلك المباين إن كان جسما أو جسمانيا عاد التقسم الأول فيه ، وإن لم يكن جسما ولا جسمانيا فإما أن يكون موجبا بالذات أو فاعلا مختارا ، والأول باطل ، لأن نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على السوية ، فلم يكن بعض الأجسام بقبول بعض الآثار المعينة أولى من بعض ، ولما بطل هذا ثبت أن محرك الأفلاك والكواكب هو الفاعل المختار القادر المنزه عن كونه جسما وجسمانيا ، وذلك هو الله تعالى ، فالحاصل أنا ولو حكمنا بإسناد حوادث العالم السفلي إلى الحركات الفلكية والكوكبية فهذه الحركات الكوكبية والفلكية لا يمكن إسنادها إلى أفلاك أخرى ، وإلا لزم التسلسل وهو   
[ ص: 4 ] محال ، فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله تعالى ، وإذا كانت الحوادث السفلية مستندة إلى الحركات الفلكية ، وثبت أن الحركات الفلكية حادثة بتخليق الله تعالى وتقديره وتكوينه ، فكان هذا اعترافا بأن الكل من الله تعالى وبإحداثه وتخليقه ، وهذا هو المراد من قوله : ( 
وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر   ) يعني : إن كانت تلك الحوادث السفلية لأجل تعاقب الليل والنهار وحركات الشمس والقمر ، فهذه الأشياء لا بد وأن يكون حدوثها بتخليق الله تعالى وتسخيره قطعا للتسلسل ، ولما تم هذا الدليل في هذا المقام لا جرم ختم هذه الآية بقوله : ( 
إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون   ) يعني : أن كل من كان عاقلا علم أن القول بالتسلسل باطل ، ولا بد من الانتهاء في آخر الأمر إلى الفاعل المختار القدير ، فهذا تقرير أحد الجوابين . 
والجواب الثاني عن ذلك السؤال : أن نقول : نحن نقيم الدلالة على أنه 
لا يجوز أن يكون حدوث النبات والحيوان لأجل تأثير الطباع والأفلاك والأنجم ، وذلك لأن تأثير الطبائع والأفلاك والأنجم والشمس والقمر بالنسبة إلى الكل واحد ، ثم نرى أنه إذا تولد العنب كان قشره على طبع ، وعجمه على طبع ، ولحمه على طبع ثالث ، وماؤه على طبع رابع ، بل نقول : إنا نرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصفرة ، والوجه الثاني من تلك الورقة في غاية الحمرة ، وتلك الورقة تكون في غاية الرقة واللطافة ، ونعلم بالضرورة أن نسبة الأنجم والأفلاك إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة ، نسبة واحدة ، والطبيعة الواحدة في المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلا واحدا ، ألا ترى أنهم قالوا : شكل البسيط هو الكرة ؛ لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابها ، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة ، وأيضا إذا وضعنا الشمع فإذا استضاء خمسة أذرع من ذلك الشمع من أحد الجوانب ، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب ; لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب . 
إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أن نسبة الشمس والقمر والأنجم والأفلاك والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة الرقيقة نسبة واحدة ، وثبت أن الطبيعة المؤثرة متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابها وثبت أن الأثر غير متشابه ، لأن أحد جانبي تلك الورقة في غاية الصفرة ، والوجه الثاني في غاية الحمرة ، فهذا يفيد القطع بأن المؤثر في حصول هذه الصفات والألوان والأحوال ليس هو الطبيعة ، بل المؤثر فيها هو الفاعل المختار الحكيم ، وهو الله سبحانه وتعالى ، وهذا هو المراد من قوله : ( 
وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه   ) . 
واعلم أنه لما كان مدار هذه الحجة على أن المؤثر الموجب بالذات وبالطبيعة يجب أن يكون نسبته إلى الكل نسبة واحدة ، فلما دل الحس في هذه الأجسام النباتية على اختلاف صفاتها وتنافر أحوالها ظهر أن المؤثر فيها ليس واجبا بالذات بل فاعلا مختارا ، فهذا تمام تقرير هذه الدلائل ، وثبت أن ختم الآية الأولى بقوله : ( 
لقوم يتفكرون   ) والآية الثانية بقوله : ( 
لقوم يعقلون   ) والآية الثالثة بقوله : ( 
لقوم يذكرون   ) هو الذي نبه على هذه الفوائد النفيسة والدلائل الظاهرة والحمد لله على ألطافه في الدين والدنيا . 
المسألة الثانية : 
قرأ ابن عامر    : ( والشمس والقمر والنجوم ) كلها بالرفع على الابتداء ، والخبر هو قوله : ( مسخرات ) وقرأ 
حفص  عن 
عاصم    : ( 
والنجوم   ) بالرفع على أن يكون قوله : ( 
والنجوم   ) ابتداء ، وإنما حملها على هذا لئلا يتكرر لفظ التسخير ، إذ العرب لا تقول سخرت هذا الشيء مسخرا ، فجوابه أن المعنى أنه تعالى   
[ ص: 5 ] سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرة تحت قدرته وإرادته ، وهذا هو الكلام الصحيح ، والتقدير : أنه تعالى سخر للناس هذه الأشياء وجعلها موافقة لمصالحها حال كونها مسخرة تحت قدرة الله تعالى وأمره وإذنه ، وعلى هذا التقدير فالتكرير الخالي عن الفائدة غير لازم والله أعلم .