صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) .

ففيه مسائل :

المسألة الأولى : المقصود من هذه الآية شرح صفات الملائكة وهي دلالة قاهرة قاطعة على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب ; لأن قوله : ( وهم لا يستكبرون ) يدل على أنهم منقادون لصانعهم وخالقهم وأنهم ما خالفوه في أمر من الأمور ، ونظيره قوله تعالى : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) [ مريم : 64 ] وقوله : ( لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) [ الأنبياء : 27 ] وأما قوله : ( ويفعلون ما يؤمرون ) فهذا أيضا يدل على أنهم فعلوا كل ما كانوا مأمورين به ، وذلك يدل على عصمتهم عن كل الذنوب .

فإن قالوا : هب أن هذه الآية تدل على أنهم فعلوا كل ما أمروا به فلم قلتم إنها تدل على أنهم تركوا كل ما نهوا عنه ؟ .

قلنا : لأن كل من نهي عن شيء فقد أمر بتركه ، وحينئذ يدخل في اللفظ ، وإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كل الذنوب ، وثبت أن إبليس ما كان معصوما من الذنوب بل كان كافرا ، لزم القطع بأن إبليس ما كان من الملائكة .

والوجه الثاني : في بيان هذا المقصود أنه تعالى قال في صفة الملائكة : ( وهم لا يستكبرون ) ثم قال لإبليس : ( أأستكبرت أم كنت من العالين ) [ ص : 75 ] وقال أيضا له : ( فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها ) [ الأعراف : 13 ] فثبت أن الملائكة لا يستكبرون وثبت أن إبليس تكبر واستكبر فوجب أن لا يكون من الملائكة ، وأيضا لما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة ثبت أن القصة الخبيثة التي يذكرونها في حق هاروت وماروت كلام باطل ، فإن الله تعالى وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم عن كل ذنب ، وجب القطع بأن تلك القصة كاذبة باطلة ، والله أعلم . واحتج الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا : إنه تعالى وصفهم بالخوف ، ولولا أنهم يجوزون على أنفسهم الإقدام على الكبائر والذنوب ، وإلا لم يحصل الخوف .

والجواب من وجهين .

الأول : أنه تعالى منذرهم من العقاب فقال : ( ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ) [ الأنبياء : 29 ] وهم لهذا الخوف يتركون الذنب .

والثاني : وهو الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال ، هكذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والدليل على صحته قوله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 28 ] وهذا يدل على أنه كلما كانت معرفة الله تعالى أتم ، كان الخوف منه أعظم ، وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء ، والله أعلم .

المسألة الثانية : قالت المشبهة : قوله تعالى : ( يخافون ربهم من فوقهم ) هذا يدل على أن الإله تعالى فوقهم بالذات .

[ ص: 38 ] واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهة في تفسير قوله تعالى : ( وهو القاهر فوق عباده ) [ الأنعام : 18 ] والذي نزيده ههنا أن قوله : ( يخافون ربهم من فوقهم ) معناه : يخافون ربهم من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم ، وإذا كان اللفظ محتملا لهذا المعنى سقط قولهم ، وأيضا يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة والقهر كقوله : ( وإنا فوقهم قاهرون ) [ الأعراف : 127 ] والذي يقوي هذا الوجه أنه تعالى لما قال : ( يخافون ربهم من فوقهم ) وجب أن يكون المقتضى لهذا الخوف هو كون ربهم فوقهم ; لما ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف يشعر بكون الحكم معللا بذلك الوصف .

إذا ثبت هذا فنقول : هذا التعطيل إنما يصح لو كان المراد بالفوقية الفوقية بالقهر والقدرة ; لأنها هي الموجبة للخوف ، أما الفوقية بالجهة والمكان فهي لا توجب الخوف ، بدليل أن حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنه أخس عبيده فسقطت هذه الشبهة .

المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أن الملائكة مكلفون من قبل الله تعالى ، وأن الأمر والنهي متوجه عليهم كسائر المكلفين ، ومتى كانوا كذلك وجب أن يكونوا قادرين على الخير والشر .

المسألة الرابعة : تمسك قوم بهذه الآية في بيان أن الملك أفضل من البشر في وجوه :

الوجه الأول : أنه تعالى قال : ( ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة ) وذكرنا أن تخصيص هذين النوعين بالذكر إنما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخس المراتب ، وكان الطرف الثاني أشرفها ، حتى يكون ذكر هذين الطرفين منبها على الباقي ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله تعالى .

الوجه الثاني : أن قوله تعالى : ( وهم لا يستكبرون ) يدل على أنه ليس في قلوبهم تكبر وترفع وقوله : ( ويفعلون ما يؤمرون ) يدل على أن أعمالهم خالية عن الذنب والمعصية ، فمجموع هذين الكلامين يدل على أن بواطنهم وظواهرهم مبرأة عن الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة ، وأما البشر فليسوا كذلك . ويدل عليه القرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : ( قتل الإنسان ما أكفره ) [ عبس : 17 ] وهذا الحكم عام في الإنسان ، وأقل مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذميمة ، وأما الخبر فقوله عليه السلام : " ما منا إلا وقد عصى أو هم بالمعصية غير يحيى بن زكريا " ومن المعلوم بالضرورة أن المبرأ عن المعصية والهم بها أفضل ممن عصى أو هم بها .

الوجه الثالث : أنه لا شك أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بأدوار متطاولة وأزمان ممتدة ، ثم إنه وصفهم بالطاعة والخضوع والخشوع طول هذه المدة ، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين .

الأول : قوله عليه السلام : " الشيخ في قومه كالنبي في أمته " فضل الشيخ على الشاب ، وما ذاك إلا لأنه لما كان عمره أطول ، فالظاهر أن طاعته أكثر ، فكان أفضل .

والثاني : أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها لزم أن يقال : إنهم هم الذين سنوا هذه السنة الحسنة ، وهي طاعة الخالق القديم الرحيم ، والبشر إنما جاءوا بعدهم واستنوا سنتهم ، فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كل ما حصل للبشر من الثواب فقد حصل مثله للملائكة ، ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة ، فوجب كونهم أفضل من غيرهم .

[ ص: 39 ] الوجه الرابع : في دلالة الآية على هذا المعنى قوله : ( يخافون ربهم من فوقهم ) وقد بينا بالدليل أن هذه الفوقية عبارة عن الفوقية بالرتبة والشرف والقدرة والقوة ، فظاهر الآية يدل على أنه لا شيء فوقهم في الشرف والرتبة إلا الله تعالى ، وذلك يدل على كونهم أفضل المخلوقات ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية