صفحة جزء
ثم قال تعالى : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) اعلم أنه تعالى لما ذكر بعض منافع الحيوانات في الآية المتقدمة ، ذكر في هذه الآية بعض منافع النبات ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : فإن قيل : بم تعلق قوله : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب ) ؟ .

قلنا : بمحذوف تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي : من عصيرها ، وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه . وقوله : ( تتخذون منه سكرا ) بيان وكشف عن كنه الإسقاء .

المسألة الثانية : قال الواحدي : " الأعناب " عطف على الثمرات لا على النخيل ، لأنه يصير التقدير : ومن ثمرات الأعناب ، والعنب نفسه ثمرة وليست له ثمرة أخرى .

المسألة الثالثة : في تفسير السكر وجوه :

الأول : السكر الخمر ، سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا نحو : رشد رشدا ورشدا ، وأما الرزق الحسن فسائر ما يتخذ من النخيل والأعناب كالرب والخل والدبس والتمر والزبيب .

فإن قيل : الخمر محرمة ، فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام ؟ .

أجابوا عنه من وجهين :

الأول : أن هذه السورة مكية ، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة ، فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة .

الثاني : أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ ، وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من النافع ، وخاطب المشركين بها ، والخمر من أشربتهم فهي منفعة في حقهم ، ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضا على تحريمها ، وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في [ ص: 56 ] الذكر ، فوجب أن لا يكون السكر رزقا حسنا ، ولا شك أنه حسن بحسب الشهوة ، فوجب أن يقال : الرجوع عن كونه حسنا بحسب الشريعة ، وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة .

القول الثاني : أن السكر هو النبيذ ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتد ، وهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله إلى حد السكر ، ويحتج بأن هذه الآية تدل على أن السكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة ، ودل الحديث على أن الخمر حرام ، قال عليه السلام : " الخمر حرام لعينها " وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئا غير الخمر ، وكل من أثبت هذه المغايرة قال : إنه النبيذ المطبوخ .

والقول الثالث : أن السكر هو الطعام ، قاله أبو عبيدة : واحتج عليه بقول الشاعر :


جعلت أعراض الكرام سكرا



أي : جعلت ذمهم طعاما لك ، قال الزجاج : هذا بالخمر أشبه منه بالطعام ، والمعنى أنك جعلت تتخمر بأغراض الكرام ، والمعنى : أنه جعل شغفه بغيبة الناس وتمزيق أعراضهم جاريا مجرى شرب الخمر .

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه التي هي دلائل من وجه ، وتعديد للنعم العظيمة من وجه آخر ، قال : ( إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) والمعنى : أن من كان عاقلا ، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى ، فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر الحكيم . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية