صفحة جزء
ثم قال تعالى : ( أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال صاحب " الكشاف " : ( أن اتخذي ) هي " أن " المفسرة ، لأن الإيحاء فيه معنى القول ، وقرئ : ( بيوتا ) بكسر الباء ( ومن الشجر ومما يعرشون ) أي : يبنون ويسقفون ، وفيه لغتان قرئ بهما ، ضم الراء وكسرها مثل يعكفون ويعكفون .

واعلم أن النحل نوعان :

النوع الأول : ما يسكن في الجبال والغياض ولا يتعهدها أحد من الناس .

والنوع الثاني : التي تسكن بيوت الناس وتكون في تعهدات الناس ، فالأول هو المراد بقوله : ( أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ) .

والثاني : هو المراد بقوله : ( ومما يعرشون ) وهو خلايا النحل .

فإن قيل : ما معنى " من " في قوله : ( أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ) وهلا قيل في الجبال وفي الشجر ؟ .

قلنا : أريد به معنى البعضية ، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وشجر ، بل في مساكن توافق مصالحها وتليق بها .

المسألة الثانية : ظاهر قوله تعالى : ( أن اتخذي من الجبال بيوتا ) أمر ، وقد اختلفوا فيه ، فمن الناس من يقول : لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول ، ولا يبعد أن يتوجه عليها من الله تعالى أمر ونهي . وقال آخرون : ليس الأمر كذلك بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال ، والكلام [ ص: 58 ] المستقصى في هذه المسألة مذكور في تفسير قوله تعالى : ( ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم ) [ النمل : 18 ] .

ثم قال تعالى : ( ثم كلي من كل الثمرات ) لفظة " من " ههنا للتبعيض أو لابتداء الغاية ، ورأيت في " كتب الطب " أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه ، وهو أنه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ، ويقع ذلك الطل على أوراق الأشجار ، فقد تكون تلك الأجزاء الطلية لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار ، وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة .

أما القسم الثاني : فهو مثل الترنجبين فإنه طل ينزل من الهواء ويجتمع على أطراف الطرفاء في بعض البلدان وذلك محسوس .

وأما القسم الأول : فهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل حتى أنها تلتقط تلك الذرات من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها ، فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئا من تلك الأجزاء وذهبت بها إلى بيوتها ووضعتها هناك ، لأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها ، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذاك هو العسل ، ومن الناس من يقول : إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق المعطرة أشياء ، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلا ، ثم إنها تقيء مرة أخرى فذاك هو العسل ، والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة إلى الاستقراء ، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ، ولا شك أنه طل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا ههنا . وأيضا فنحن نشاهد أن هذا النحل إنما يتغذى بالعسل ، ولذلك فإنا إذا استخرجنا العسل من بيوت النحل نترك لها بقية من ذلك لأجل أن تغتذي بها ، فعلمنا أنها إنما تغتذي بالعسل وأنها إنما تقع على الأشجار والأزهار لأنها تغتذي بتلك الأجزاء الطلية العسلية الواقعة من الهواء عليها .

إذا عرفت هذا فنقول : قوله تعالى : ( ثم كلي من كل الثمرات ) كلمة " من " ههنا تكون لابتداء الغاية ، ولا تكون للتبعيض على هذا القول .

ثم قال تعالى : ( فاسلكي سبل ربك ) والمعنى : ثم كلي كل ثمرة تشتهينها ، فإذا أكلتها فاسلكي سبل ربك في الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو يكون المراد : فاسلكي في طلب تلك الثمرات سبل ربك . أما قوله : ( ذللا ) ففيه قولان .

الأول : أنه حال من السبل ; لأن الله تعالى ذللها لها ووطأها وسهلها ، كقوله : ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ) [ الملك : 15 ] .

الثاني : أنه حال من الضمير في ( فاسلكي ) أي : وأنت أيها النحل ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية