صفحة جزء
( والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير )

قوله تعالى : ( والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير )

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : لما ذكر تعالى بعض عجائب أحوال الحيوانات ، ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس ، فمنها ما هو مذكور في هذه الآية ، وهو إشارة إلى مراتب عمر الإنسان ، والعقلاء ضبطوها في أربع مراتب :

أولها : سن النشو والنماء .

وثانيها : سن الوقوف وهو سن الشباب .

وثالثها : سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة .

ورابعها : سن الانحطاط الكبير وهو سن الشيخوخة .

فاحتج تعالى بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض ، على أن ذلك الناقل هو الله تعالى ، والأطباء الطبائعيون قالوا : المقتضي لهذا الانتقال هو طبيعة الإنسان ، وأنا أحكي كلامهم على الوجه الملخص ، وأبين ضعفه وفساده ، وحينئذ يبقى أن ذلك الناقل هو الله سبحانه ، وعند ذلك يصح بالدليل العقلي ما ذكر الله تعالى في هذه الآية . قال الطبائعيون : إن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث ، والمني والدم جوهران حاران رطبان ، والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قللت رطوبته وأفادته نوع يبس ، وهذا مشاهد معلوم ، قالوا : فلا يزال ما في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما فيه من الرطوبة حتى تتصلب الأعضاء ويظهر فيه الانعقاد ، ويحدث العظم والغضروف والعصب والوتر والرباط وسائر الأعضاء ، فإذا تم تكون البدن وكمل ، فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم الأم ، ومع ذلك فالرطوبات زائدة ، والدليل عليه أنك ترى أعضاء الطفل بعد انفصاله من الأم لينة لطيفة وعظامه لينة قريبة الطبع من الغضاريف ، ثم إن ما في البدن من الحرارة يعمل في تلك الرطوبات ويقللها ، قالوا : ويحصل للبدن ثلاثة أحوال .

الحالة الأولى : أن تكون رطوبة البدن زائدة على حرارته ، وحينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء ، وذلك هو سن النشو والنماء ونهايته إلى ثلاثين سنة أو خمس وثلاثين سنة .

الحالة الثانية : أن تصير رطوبات البدن أقل ما كانت ، فتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية إلا [ ص: 61 ] أنها لا تكون زائدة على هذا القدر ، وهذا هو سن الوقوف وسن الشباب وغايته خمس سنين ، وعند تمامه يتم الأربعون .

والحالة الثالثة : أن تقل الرطوبات وتصير بحيث لا تكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية ، وعند ذلك يظهر النقصان ، ثم هذا النقصان قد يكون خفيا وهو سن الكهولة ، وتمامه إلى ستين سنة وقد يكون ظاهرا وهو سن الشيخوخة وتمامه إلى مائة وعشرين سنة ، فهذا هو الذي حصله الأطباء في هذا الباب ، وعندي أن هذا التعليل ضعيف ويدل على ضعفه وجوه :

الوجه الأول : أنا نقول : إن في أول ما كان المني منيا ، وكان الدم دما كانت الرطوبات غالبة وكانت الحرارة الغريزية مغمورة ، وكانت ضعيفة بهذا السبب ، ثم إنها مع ضعفها قويت على تحليل أكثر تلك الرطوبات وأبانتها من حد الدموية والمنوية إلى أن صارت عظما وغضروفا وعصبا ورباطا ، وعندما تولدت الأعضاء وكمل البدن قلت الرطوبات فوجب أن تكون للحرارة الغريزية قوة أزيد مما كانت قبل ذلك ، فوجب أن يكون تحليل الرطوبات بعد تولد البدن وكماله أزيد من تحللها قبل تولد البدن ، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، لأن قبل تولد البدن انتقل جسم المني والدم إلى أن صار عظما وعصبا ، وأما بعد تولد البدن فلم يحصل مثل هذا الانتقال ولا عشر عشره ، فلو كان تولد هذه الأعضاء بسبب تأثير الحرارة في الرطوبة لوجب أن يكون تحلل الرطوبات بعد كمال البدن أكثر من تحللها قبل تكون البدن ، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن تولد البدن إنما كان بتدبير قادر حكيم يدبر أبدان الحيوانات على وفق مصالحها ، وأنه ما كان تولد البدن لأجل ما قالوه من تأثير الحرارة في الرطوبة .

والوجه الثاني في إبطال هذا الكلام أن نقول : إن الحرارة الغريزية الحاصلة في بدن الإنسان الكامل إما أن تكون هي عين ما كان حاصلا في جوهر النطفة ، أو صارت أزيد مما كانت ، والأول باطل ; لأن الحار الغريزي الحاصل في جوهر النطفة كان بمقدار جرم النطفة ، ولا شك أن جرم النطفة كان قليلا صغيرا ، فهذا البدن بعد كبره لو لم يحصل فيه من الحرارة الغريزية إلا ذلك القدر كان في غاية القلة ، ولم يظهر منه في هذا البدن أثر أصلا .

وأما الثاني ففيه تسليم أن الحرارة الغريزية تتزايد بحسب تزايد الجثة والبدن ، وإذا تزايدت الحرارة الغريزية ساعة فساعة ، وثبت أن تزايدها يوجب تزايد القوة والصحة ساعة فساعة ، فوجب أن يبقى البدن الحيواني أبدا في التزايد والتكامل ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن ازدياد حال البدن الحيواني وانتقاصه ليس بحسب الطبيعة ، بل بسبب تدبير الفاعل المختار .

والوجه الثالث : وهو الذي أوردناه على الأطباء في كتابنا " الكبير في الطب " فقلنا : هي أن الرطوبة الغريزية صارت معادلة للحرارة الغريزية ، فلم قلتم : إن الحرارة الغريزية يجب أن تصير أقل مما كانت ؟ وأن ينتقل الإنسان من سن الشباب إلى سن النقصان . قالوا : السبب فيه أنه إذا حصل هذا الاستواء ، فالحرارة الغريزية بعد ذلك تؤثر في تخفيف الرطوبة الغريزية ، فتقل الرطوبات الغريزية حتى صارت بحيث لا تفي بحفظ الحرارة الغريزية ، وإذا حصلت هذه الحالة ضعفت الحرارة الغريزية أيضا ، لأن الرطوبة الغريزية كالغذاء للحرارة الغريزية ، فإذا قل الغذاء ضعف المغتذي .

فالحاصل : أن الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية ، وقلتها توجب ضعف الحرارة الغريزية ، ويلزم من ضعف إحداهما ضعف الأخرى إلى أن تنتهي [ ص: 62 ] إلى حيث لا يبقى من الرطوبة الغريزية شيء ، وحينئذ تنطفئ الحرارة الغريزية ويحصل الموت ، هذا منتهى ما قالوه في هذا الباب ، وهو ضعيف ؛ لأنا نقول : إن الحرارة الغريزية إذا أثرت في تجفيف الرطوبة الغريزية وقلتها ، فلم لا يجوز أن يقال : إن القوة الغاذية تورد بدلها ؟ فعند هذا قالوا : القوة الغاذية إنما تقوى على إيراد بدلها لو كانت الحرارة الغريزية قوية ، فأما عند ضعفها فلا ، فنقول : فههنا لزم الدور ، لأن الرطوبة الغريزية إنما تقل وتنقص لو لم تكن القوة الغاذية وافية بإيراد بدلها ، وإنما تعجز القوة الغاذية عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة ، وإنما تكون الحرارة الغريزية ضعيفة أن لو قلت الرطوبة الغريزية ، وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل ، فثبت أن على القول الذي قالوه بلزوم الدور وأنه باطل ، فثبت أن تعليل انتقال الإنسان من سن إلى سن بما ذكروه من اعتبار الطبائع يوجب عليهم هذه المحاولات المذكورة ، فكان القول به باطلا ، ولما بطل هذا القول وجب القطع بإسناد هذه الأحوال إلى الإله القادر المختار الحكيم الرحيم الذي يدبر أبدان الحيوانات على الوجه الموافق لمصالحها ، وذلك هو المطلوب .

وقد كنت أقرأ يوما من الأيام سورة المرسلات ، فلما وصلت إلى قوله تعالى : ( ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ) [ المرسلات : 20 ] فقلت : لا شك أن المراد بهؤلاء المكذبين هم الذين نسبوا تكون الأبدان الحيوانية إلى الطبائع وتأثير الحرارة في الرطوبة ، وأنا أؤمن من صميم قلبي يا رب العزة بأن هذه التدبيرات ليست من الطبائع ، بل من خالق العالم الذي هو أحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين .

إذا عرفت هذا فقد صح بالدليل العقلي صدق قوله : ( والله خلقكم ) لأنه ثبت أن خالق أبدان الناس وسائر الحيوانات ليس هو الطبائع بل هو الله سبحانه وتعالى ، وقوله : ( ثم يتوفاكم ) قد بينا أن السبب الذي ذكروه في صيرورة الموت فاسد باطل ، وأنه يلزم عليه القول بالدور ، ولما بطل ذلك ثبت أن الحياة والموت إنما حصلا بتخليق الله وبتقديره ، وقوله : ( ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ) قد بينا بالدليل أن الطبائع لا يجوز أن تكون علة لانتقال الإنسان من الكمال إلى النقصان ومن القوة إلى الضعف ، فلزم القطع بأن انتقال الإنسان من الشباب إلى الشيخوخة ، ومن الصحة إلى الهرم ، ومن العقل الكامل إلى أن صار خرفا غافلا ليس بمقتضى الطبيعة ، بل بفعل الفاعل المختار ، وإذا ثبت ما ذكرنا ظهر أن الذي دل عليه لفظ القرآن قد ثبت صحته بقاطع القرآن .

ثم قال تعالى : ( إن الله عليم قدير ) وهذا كالأصل الذي عليه تفريع كل ما ذكرناه ، وذلك لأن الطبيعة جاهلة لا تميز بين وقت المصلحة ووقت المفسدة ، فهذه الانفعالات في هذا الإنسان لا يمكن إسنادها إليها . أما إله العالم ومدبره وخالقه ، فهو الكامل في العلم ، الكامل في القدرة ، فلأجل كمال علمه يعلم مقادير المصالح والمفاسد ، ولأجل كمال قدرته يقدر على تحصيل المصالح ودفع المفاسد ، فلا جرم أمكن إسناد تخليق الحيوانات إلى إله العالم ، فلا يمكن إسناده إلى الطبائع والله أعلم .

المسألة الثانية : في تفسير ألفاظ الآية قال المفسرون : والله خلقكم ولم تكونوا شيئا ، ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ، وهو أردؤه وأضعفه . يقال : رذل الشيء يرذل رذالة وأرذله غيره ، ومنه قوله : ( إلا الذين هم أراذلنا ) [ هود : 27 ] ومنه قوله : ( واتبعك الأرذلون ) [ الشعراء : 111 ] وقوله : ( ومنكم من يرد ) [ ص: 63 ] ( إلى أرذل العمر ) هل يتناول المسلم أو هو مختص بالكافر ؟ فيه قولان :

القول الأول : أنه يتناوله ، قيل : إنه العمر الطويل ، وعلى هذا الوجه نقل عن علي - عليه السلام - أنه قال : أرذل العمر خمس وسبعون سنة . وقال قتادة : تسعون سنة . وقال السدي : إنه الخرف . والقول الأول أولى ؛ لأن الخرف معناه زوال العقل ، فقوله : ( ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا ) يدل على أنه تعالى إنما رده إلى أرذل العمر لأجل أن يزيل عقله ، فلو كان المراد من أرذل العمر هو زوال العقل لصار الشيء عين الغاية المطلوبة منه ، وإنه باطل .

والقول الثاني : أن هذا ليس في المسلمين والمسلم لا يزداد بسبب طول العمر إلا كرامة على الله تعالى ، ولا يجوز أن يقال في حقه : إنه يرد إلى أرذل العمر ، والدليل عليه قوله تعالى : ( ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [التين : 5 ] . فبين تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردوا إلى أسفل سافلين . وقال عكرمة : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر .

وقوله : ( إن الله عليم ) قال ابن عباس : يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه " قدير " على ما يريد .

التالي السابق


الخدمات العلمية