صفحة جزء
واعلم أن هذا الاعتراض إنما يستقيم على مذهب القاضي ، أما على قولنا في أنه تعالى يفعل ما يشاء [ ص: 72 ] ويحكم ما يريد فليس له قوة ، والله أعلم ، ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار فقال : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي "إمهاتكم" بكسر الهمزة ، والباقون بضمها .

المسألة الثانية : "أمهاتكم" أصله : أماتكم ، إلا أنه زيد الهاء فيه كما زيد في أراق فقيل : أهراق ، وشذت زيادتها في الواحدة في قوله :


أمهتي خندف واليأس أبي



المسألة الثالثة : الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء .

ثم قال : ( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) المعنى : أن النفس الإنسانية لما كانت في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم بالله ، فالله أعطاه هذه الحواس ؛ ليستفيد بها المعارف والعلوم ، وتمام الكلام في هذا الباب يستدعي مزيد تقرير ، فنقول : التصورات والتصديقات إما أن تكون كسبية ، وإما أن تكون بديهية ، والكسبيات إنما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات البديهيات ، فلا بد من سبق هذه العلوم البديهية ، وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول : هذه العلوم البديهية إما أن يقال : إنها كانت حاصلة منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة . والأول باطل ؛ لأنا بالضرورة نعلم أنا حين كنا جنينا في رحم الأم ما كنا نعرف أن النفي والإثبات لا يجتمعان ، وما كنا نعرف أن الكل أعظم من الجزء .

وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت حاصلة ، فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب ، وكل ما كان كسبيا فهو مسبوق بعلوم أخرى ، فهذه العلوم البديهية تصير كسبية ، ويجب أن تكون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية ، وكل ذلك محال ، وهذا سؤال قوي مشكل .

وجوابه أن نقول : الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا ، ثم إنها حدثت وحصلت .

أما قوله : فيلزم أن تكون كسبية .

قلنا : هذه المقدمة ممنوعة ، بل نقول : إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر ، وتقريره أن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر ، فإذا أبصر الطفل شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في خياله ماهية ذلك المبصر ، وكذلك إذا سمع شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع ، وكذا الطول في سائر الحواس فيصير حصول الحواس سببا لحضور ماهيات المحسوسات في النفس والعقل . ثم إن تلك الماهيات على قسمين :

أحد القسمين : ما يكون نفس حضوره موجبا تاما في جزم الذهن بإسناد بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات ، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الواحد ما هو ؟ وأن نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بأن الواحد محكوم عليه بأنه نصف الاثنين ، وهذا القسم هو عين العلوم البديهية .

والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية ، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم ما هو ؟ وأن المحدث ما هو ؟ فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم محدث ، بل [ ص: 73 ] لا بد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة . والحاصل أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية . وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها . وحدوث هذه التصورات إنما كان بسبب إعانة هذه الحواس على جزئياتها ، فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس ؛ فلهذا السبب قال تعالى : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه ، وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة ، مدرجة في هذه الآيات .

وقال المفسرون : ( وجعل لكم السمع ) لتسمعوا مواعظ الله ( والأبصار ) لتبصروا دلائل الله ، ( والأفئدة ) لتعقلوا عظمة الله ، والأفئدة : جمع فؤاد نحو أغربة وغراب . قال الزجاج : ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد ، وما قيل فيه فئدان ، كما قيل : غراب غربان . وأقول : لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة ؛ تنبيها على أن السمع والبصر كثيران ، وأن الفؤاد قليل ؛ لأن الفؤاد إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك ، بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد ؛ فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة .

فإن قيل : قوله تعالى : ( وجعل لكم السمع والأبصار ) عطف على قوله : ( أخرجكم ) ، وهذا يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرا عن الإخراج عن البطن ، ومعلوم أنه ليس كذلك .

والجواب : أن حرف الواو لا يوجب الترتيب ؛ وأيضا إذا حملنا السمع على الاستماع ، والأبصار على الرؤية - زال السؤال ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية