صفحة جزء
[ ص: 81 ] ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) .

قوله تعالى : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) .

واعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح الوعد والوعيد والترغيب والترهيب أتبعه بقوله : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) فجمع في هذه الآية ما يتصل بالتكليف فرضا ونفلا ، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموما وخصوصا ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : في بيان فضائل هذه الآية روي عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال : ما أسلمت أولا إلا حياء من محمد - عليه السلام - ولم يتقرر الإسلام في قلبي ، فحضرته ذات يوم ، فبينما هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه ، ثم عاد لمثل ذلك فسألته ، فقال : "بينما أنا أحدثك إذا بجبريل نزل عن يميني فقال : يا محمد ، إن الله يأمر بالعدل والإحسان ، العدل : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإحسان : القيام بالفرائض وإيتاء ذي القربى - أي صلة ذي القرابة - وينهى عن الفحشاء - الزنا - والمنكر -ما لا يعرف في شريعة ولا سنة - والبغي - الاستطالة " . قال عثمان : فوقع الإيمان في قلبي فأتيت أبا طالب فأخبرته فقال : يا معشر قريش ، اتبعوا ابن أخي ترشدوا ولئن كان صادقا أو كاذبا فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمه اللين قال : يا عماه أتأمر الناس أن يتبعوني وتدع نفسك ، وجهد عليه ، فأبى أن يسلم فنزل قوله : ( إنك لا تهدي من أحببت ) [القصص : 56] . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - : إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية ، وعن قتادة : ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحب إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية ، وليس من خلق سيئ إلا نهى الله عنه في هذه الآية ، وروى القاضي في تفسيره عن ابن ماجه عن علي - عليه السلام - أنه قال : أمر الله تعالى نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، فخرج وأنا معه وأبو بكر ، فوقفنا على مجلس عليهم الوقار ، فقال أبو بكر : ممن القوم ؟ فقالوا : من شيبان بن ثعلبة ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشهادتين وإلى أن ينصروه ، فإن قريشا كذبوه ، فقال مقرون بن عمرو : إلام تدعونا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) الآية ، فقال مقرون بن عمرو : دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك . وعن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على الوليد فاستعاده ، ثم قال : إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " . والله أعلم .

المسألة الثانية : في تفسير هذه الآية : أكثر الناس في تفسير هذه الآية ، قال ابن عباس : في بعض الروايات العدل شهادة أن لا إله إلا الله ، والإحسان أداء الفرائض . وقال في رواية أخرى : العدل خلع الأنداد ، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، فإن كان مؤمنا أحببت أن يزداد إيمانا ، وإن [ ص: 82 ] كان كافرا أحببت أن يصير أخاك في الإسلام . وقال في رواية ثالثة : العدل هو التوحيد ، والإحسان الإخلاص فيه . وقال آخرون : يعني بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال ، فلا تفعل إلا ما هو عدل ولا تقل إلا ما هو إحسان ، وقوله : ( وإيتاء ذي القربى ) يريد صلة الرحم بالمال ، فإن لم يكن فبالدعاء ، روى أبو مسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم ، إن أهل البيت ليكونون فجارا فتنمى أموالهم ويكثر عددهم ؛ إذا وصلوا أرحامهم " ، وقوله : ( وينهى عن الفحشاء ) قيل : الزنا ، وقيل : البخل ، وقيل : كل الذنوب ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، وسواء كانت في القول أو في الفعل ، وأما المنكر فقيل : إنه الكفر بالله تعالى ، وقيل : المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ، وأما البغي فقيل : الكبر والظلم ، وقيل : أن تبغي على أخيك .

واعلم أن في المأمورات كثرة وفي المنهيات أيضا كثرة ، وإنما حسن تفسير لفظ معين لشيء معين ، إذا حصل بين ذلك اللفظ وبين ذلك المعنى مناسبة . أما إذا لم تحصل هذه الحالة كان ذلك التفسير فاسدا ، فإذا فسرنا العدل بشيء والإحسان بشيء آخر وجب أن نبين أن لفظ العدل يناسب ذلك المعنى ، ولفظ الإحسان يناسب هذا المعنى ، فلما لم نبين هذا المعنى كان ذلك مجرد التحكم ، ولم يكن جعل بعض تلك المعاني تفسيرا لبعض تلك الألفاظ أولى من العكس ، فثبت أن هذه الوجوه التي ذكرناها ليست قوية في تفسير هذه الآية .

وأقول : ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى أمر بثلاثة أشياء : وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن ثلاثة أشياء : وهي الفحشاء والمنكر والبغي . فوجب أن يكون العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ثلاثة أشياء متغايرة . ووجب أن تكون الفحشاء والمنكر والبغي ثلاثة أشياء متغايرة ؛ لأن العطف يوجب المغايرة ، فنقول : أما العدل فهو عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط ، وذلك أمر واجب الرعاية في جميع الأشياء ، ولا بد من تفصيل القول فيه .

فنقول : الأحوال التي وقع التكليف بها ؛ إما الاعتقادات وإما أعمال الجوارح . أما الاعتقادات : فالعدل في كلها واجب الرعاية :

فأحدها : قال ابن عباس : إن المراد بالعدل هو قول لا إله إلا الله ، وتحقيق القول فيه أن نفي الإله تعطيل محض ، وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتشبيه ، وهما مذمومان ، والعدل : هو إثبات الإله الواحد ، وهو قول لا إله إلا الله .

وثانيها : أن القول بأن الإله ليس بموجود ولا شيء - تعطيل محض . والقول بأنه جسم وجوهر مركب من الأعضاء ، ومختص بالمكان - تشبيه محض . والعدل إثبات إله موجود متحقق بشرط أن يكون منزها عن الجسمية والجوهرية والأعضاء والأجزاء والمكان .

وثالثها : أن القول بأن الإله غير موصوف بالصفات من العلم والقدرة تعطيل محض . والقول بأن صفاته حادثة متغيرة - تشبيه محض .

والعدل : هو إثبات أن الإله عالم قادر حي ؛ مع الاعتراف بأن صفاته ليست حادثة ولا متغيرة .

ورابعها : أن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار - جبر محض . والقول بأن العبد مستقل بأفعاله - قدر محض ، وهما مذمومان ، والعدل أن يقال : إن العبد يفعل الفعل لكن بواسطة قدرة وداعية ، يخلقهما الله تعالى فيه .

وخامسها : القول أن الله تعالى لا يؤاخذ عبده على شيء من الذنوب مساهلة عظيمة ، والقول بأنه تعالى يخلد في النار عبده العارف بالمعصية الواحدة تشديد عظيم ، والعدل أنه يخرج من النار كل من قال واعتقد أنه لا إله إلا الله ، فهذه أمثلة ذكرناها في رعاية معنى العدل في الاعتقادات .

وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح ، فنذكر ستة أمثلة منها :

أحدها : أن قوما من نفاة التكاليف يقولون : لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ، ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي ، وليس لله عليه تكليف أصلا ، وقال قوم من الهند ، ومن المانوية : إنه يجب على الإنسان أن يجتنب عن كل الطيبات وأن يبالغ في تعذيب [ ص: 83 ] نفسه وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى أن المانوية يخصون أنفسهم ، ويحترزون عن التزوج ، ويحترزون عن أكل الطعام الطيب ، والهند يحرقون أنفسهم ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل ، فهذان الطريقان مذمومان ، والوسط المعتدل هو هذا الشرع الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم .

وثانيها : أن التشديد في دين موسى - عليه السلام - غالب جدا ، والتساهل في دين عيسى - عليه السلام - غالب جدا ، والوسط العدل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم .

قيل : كان شرع موسى - عليه السلام - في القتل العمد استيفاء القصاص لا محالة ، وفي شرع عيسى - عليه السلام - العفو . أما في شرعنا فإن شاء استوفى القصاص على سبيل المماثلة ، وإن شاء استوفى الدية ، وإن شاء عفا . وأيضا شرع موسى يقتضي الاحتراز العظيم عن المرأة حال حيضها ، وشرع عيسى يقتضي حل وطء الحائض ، والعدل ما حكم به شرعنا ، وهو أنه يحرم وطؤها ؛ احترازا عن التلطخ بتلك الدماء الخبيثة ، أما لا يجب إخراجها عن الدار .

وثالثها : أنه تعالى قال : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) [البقرة : 143] . يعني متباعدين عن طرفي الإفراط والتفريط في كل الأمور ، وقال : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [الفرقان : 67] . وقال : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) [الإسراء : 29] . ولما بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات ، قال تعالى : ( طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) [طه : 2] . ولما أخذ قوم في المساهلة قال : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) [المؤمنون : 115] . والمراد من الكل رعاية العدل والوسط .

ورابعها : أن شريعتنا أمرت بالختان ؛ والحكمة فيه أن رأس العضو جسم شديد الحس ولأجله عظم الالتذاذ عند الوقاع ، فلو بقيت الجلدة على ذلك العضو بقي ذلك العضو على كمال القوة وشدة الإحساس ؛ فيعظم الالتذاذ . أما إذا قطعت تلك الجلدة وبقي ذلك العضو عاريا فيلقى الثياب وسائر الأجسام فيتصلب ويضعف حسه ويقل شعوره ؛ فيقل الالتذاذ بالوقاع فتقل الرغبة فيه ، فكأن الشريعة إنما أمرت بالختان سعيا في تقليل تلك اللذة ، حتى يصير ميل الإنسان إلى قضاء شهوة الجماع إلى حد الاعتدال ، وأن لا تصير الرغبة فيه غالبة على الطبع ، فالإخصاء وقطع الآلات على ما تذهب إليه المانوية مذموم ؛ لأنه إفراط ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة ، والعدل الوسط هو الإتيان بالختان ، فظهر بهذه الأمثلة أن العدل واجب الرعاية في جميع الأحوال ، ومن الكلمات المشهورة قولهم : وبالعدل قامت السماوات والأرض ، ومعناه : أن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة متكافئة ، بل كان بعضها أزيد بحسب الكمية وبحسب الكيفية من الآخر ، لاستولى الغالب على المغلوب ووهى المغلوب ، وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن ، لعظمت السخونة في هذا العالم ، واحترق كل ما في هذا العالم ، ولو كان بعدها أزيد مما هو الآن لاستولى البرد والجمود على هذا العالم ، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وبطئها ، فإن الواحد منها لو كان أزيد مما هو الآن أو كان أنقص مما هو الآن لاختلت مصالح هذا العالم ؛ فظهر بهذا السبب الذي ذكرناه صدق قولهم : وبالعدل قامت السماوات والأرض ، فهذه إشارة مختصرة إلى شرح حقيقة العدل .

وأما الإحسان فاعلم أن الزيادة على العدل قد تكون إحسانا ، وقد تكون إساءة . مثاله : أن العدل في الطاعات هو أداء الواجبات . أما الزيادة على الواجبات فهي أيضا طاعات وذلك من باب الإحسان ، وبالجملة فالمبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية هو الإحسان . والدليل عليه : أن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .

[ ص: 84 ] فإن قالوا : لم سمي هذا المعنى بالإحسان ؟

قلنا : كأنه بالمبالغة في الطاعة يحسن إلى نفسه ويوصل الخير والفعل الحسن إلى نفسه ، والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات ، والإحسان عبارة عن الزيادة في تلك الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية ، وبحسب الدواعي والصوارف ، وبحسب الاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية ، فهذا هو الإحسان .

واعلم أن الإحسان بالتفسير الذي ذكرناه دخل فيه التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله ، ومن الظاهر أن الشفقة على خلق الله أقسام كثيرة ، وأشرفها وأجلها صلة الرحم ، لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر فقال : ( وإيتاء ذي القربى ) فهذا تفصيل القول في هذه الثلاثة التي أمر الله تعالى بها . وأما الثلاثة التي نهى الله عنها ، وهي الفحشاء والمنكر والبغي فنقول : إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة ؛ وهي الشهوانية البهيمية ، والغضبية السبعية ، والوهمية الشيطانية ، والعقلية الملكية . وهذه القوة الرابعة ؛ أعني العقلية الملكية - لا يحتاج الإنسان إلى تأديبها وتهذيبها ؛ لأنها من جواهر الملائكة ، ومن نتائج الأرواح القدسية العلوية ، إنما المحتاج إلى التأديب والتهذيب تلك القوى الثلاثة الأول . أما القوة الشهوانية فهي إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية ، وهذا النوع مخصوص باسم الفحش . ألا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة ، فقال : ( إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) [الإسراء : 32 ] . فقوله تعالى : ( وينهى عن الفحشاء ) المراد منه المنع من تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة . وأما القوة الغضبية السبعية فهي أبدا تسعى في إيصال الشر والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس ، ولا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة ، فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية . وأما القوة الوهمية الشيطانية فهي أبدا تسعى في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم ، وذلك هو المراد من البغي ، فإنه لا معنى للبغي إلا التطاول على الناس والترفع عليهم ، فظهر بما ذكرنا أن هذه الألفاظ الثلاثة منطبقة على أحوال هذه القوى الثلاثة ، ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا : أخس هذه القوى الثلاثة هي الشهوانية ، وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية . والله تعالى راعى هذا الترتيب ، فبدأ بالفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ، ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ، ثم بالبغي الذي هو نتيجة القوة الوهمية . فهذا ما وصل إليه عقلي وخاطري في تفسير هذه الألفاظ ، فإن يك صوابا فمن الرحمن ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله عنه بريئان ، والحمد لله على ما خصنا بهذا النوع من الفضل والإحسان ، إنه الملك الديان .

التالي السابق


الخدمات العلمية