صفحة جزء
المسألة الثامنة عشرة : اختلفوا في المراد من قوله تعالى : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) وذكروا وجوها :

أحدها : أن المراد بهذا الميثاق حججه القائمة على عباده الدالة لهم على صحة توحيده وصدق رسله ، فكان ذلك ميثاقا وعهدا على التمسك بالتوحيد ، إذا كان يلزم بهذه الحجج ما ذكرنا من التمسك بالتوحيد وغيره ، ولذلك صح قوله : ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ البقرة : 40 ] .

وثانيها : يحتمل أن يعني به ما دل عليه بقوله : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا ) [ فاطر : 42 ] ، فلما لم يفعلوا ما حلفوا عليه وصفهم بنقض عهده وميثاقه ، والتأويل الأول يمكن فيه العموم في كل من ضل وكفر ، والثاني لا يمكن إلا فيمن اختص بهذا القسم ، إذا ثبت هذا ظهر رجحان التأويل الأول على الثاني من وجهين :

الأول : أن على التقدير الأول يمكن إجراء الآية على عمومها ، وعلى الثاني يلزم التخصيص ، الثاني : أن على التقدير الأول يلزمهم الذم لأنهم نقضوا عهدا أبرمه الله وأحكمه بما أنزل من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق ، وأوضحها وأزال التلبيس عنها ، ولما أودع في العقول من دلائلها وبعث الأنبياء وأنزل الكتب مؤكدا لها ، وأما على التقدير الثاني فإنه يلزمهم الذم لأجل أنهم تركوا شيئا هم بأنفسهم التزموه ، ومعلوم أن ترتيب الذم على الوجه الأول أولى .

وثالثها : قال القفال : يحتمل أن يكون المقصود بالآية قوما من أهل الكتاب قد أخذ عليهم العهد والميثاق في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين لهم أمره وأمر أمته فنقضوا ذلك وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته .

ورابعها : قال بعضهم ، إنه عنى به ميثاقا أخذه من الناس وهم على صورة الذر وأخرجهم من صلب آدم كذلك ، وهو معنى قوله تعالى : ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) [ الأعراف : 172 ] ، قال المتكلمون : هذا ساقط لأنه تعالى لا يحتج على العباد بعهد وميثاق لا يشعرون به ، كما لا يؤاخذهم بما ذهب علمه عن قلبهم بالسهو والنسيان ، فكيف يجوز أن يعيبهم بذلك ؟

وخامسها : عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود ، العهد الأول : الذي أخذه على جميع ذرية آدم وهو الإقرار [ ص: 137 ] بربوبيته وهو قوله : ( وإذ أخذ ربك ) [ الأعراف : 172 ] وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وهو قوله : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) [ الأحزاب : 7 ] وعهد خص به العلماء ، وهو قوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) [ آل عمران : 187 ] ، قال صاحب " الكشاف " : الضمير في (ميثاقه) للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله ، ويجوز أن يكون بمعنى توثيقه ، كما أن الميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه ورسله .

التالي السابق


الخدمات العلمية